آثار الفتن (4) من دخل في الفتن انحط قدره
من آثار الفتن وعواقبها: أن الأمور تشتبه فيها على الناس وتختلط، ولا يميز كثير من الناس بين حق وباطل، ويُقتل الرجل ولا يَدري فيما قُتل!
يقول سعد ابن أبي وقاص في فتنة على ومعاوية: «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان، ولسان وشفتان، يعرف المؤمن من الكافر»
أيضا من آثارها: أن من يدخل فيها وهو من أهل العلم، ربما أدت به إلى انتقاص قدره، وسقوط شأنه، ومن سلم من تلك الفتن، تكون سلامته منها رفعة له، وسببا لانتفاع الناس بعلمه، ومضي الخير وجريانه على يديه بتوفيق من الله -تبارك وتعالى-، ولهذا قال عبد الله بن عون: «كان مسلم بن يسار عند الناس أرفع من الحسن - أي البصري - فلما وقعت الفتنة، خف مسلم فيها، وأبطأ عنها الحسن - أي: تأخر واعتزل الفتن -، فأما مسلم فإنه اتضع -أي عند الناس-، وأما الحسن فإنه ارتفع» (1).
مسلم بن يسار، قال عنه عبد الله بن عون: ما سمعنا، وهو ممن دخل في فتنة ابن الأشعث، لكنه لما انتهت، كان يحمد الله ويقول في حمده لله -تبارك وتعالى-: «يا أبا قلابة، إني أحمد الله إليك؛ أني لم أرم فيها بسهم، ولم أطعن فيها برمح، ولم أضرب فيها بسيف» معنى كلامه: أنا مشيت معهم؛ لكنني ما رميت بسهم ولا ضربت بسيف، فكان يقول هذا الكلام، يحمد الله، وكان عنده أبو قلابة رحمه الله، فقال له أبو قلابة: يا أبا عبد الله: «فكيف بمن رآك واقفا في الصف؟» أنت عالم معروف بين الناس، ومكانتك معروفة؛ فكيف بمن رآك بين الصفين؟ فقال: «هذا مسلم بن يسار، والله! ما وقف هذا الموقف إلا وهو على الحق!» وقوفك بين الصفين، وحضورك بنفسك، وقيامك مع هؤلاء، وجودك نفسه هذا مما يزيد الفتنة.
فبكى مسلم بن يسار؛ لما نبهه على هذا الأمر، فقال أبو قلابة: «فبكى، وبكى، حتى تمنيت أني لم أكن قلت له شيئا» (2).
يعني: تأثر للحال التي آل إليها أمر مسلم، عندما ذكره بخطورة وقوفه حتى بدون مشاركة، فكيف بمن شارك؟!
الأثر السادس:
اشتباه الأمور واختلاط الحق بالباطل
من آثار الفتن وعواقبها: أن الأمور تشتبه فيها على الناس وتختلط، ولا يميز كثير من الناس بين حق وباطل، ويُقتل الرجل ولا يَدري فيما قُتل! ويقتله قاتله ولا يدري فيما قتله!! لكنها فتنة مضطرمة، ويموج الناس، وتتغير النفوس، وتعظم الأخطار، وتحدق الشرور بالناس، وتصبح الأمور مشتبهة. يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «إن الفتنة إذا أقبلت شُبِّهتْ، وإذا أدبرت تبينت»(3)، فالفتنة إذا أقبلت على الناس شبهت: يصبح أمرها مشتبها على الناس غير متضح، وإذا أدبرت عرف الناس حالها وتبين لهم أمرها.
ويقول مطرف بن عبد الله بن الشخير: «إن الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهدي الناس، ولكن لتقارع المؤمن على دينه»(4).
ولنعتبر في هذا الباب بفتنة المسيح الدجال التي هي أعظم الفتن، والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر لأمته فيها حقائق جلية، وأموراً واضحة، تكشف عوار الدجال وتبين حقيقته، ومع ذلك يتبعه خلق لا يحصيهم إلا الله.
يقول عليه الصلاة والسلام: «من سمع بالدجال، فلينأ عنه - أي: يبتعد عنه ولا يقترب من مكانه - فوالله! إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات»(5). «فيتبعه» أي: يتبع الدجال؛ مما يبعث به من الشبهات، أي: مما يثيره الدجال من الشبهات التي تخطف القلوب وتأسر النفوس.
وجاء في الحديث -في «صحيح مسلم»(6)- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «من قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة؛ فقتل، فقتلة جاهلية».
وقوله: «عمية»؛ أي: الأمر الأعمى لا يستبين حاله ولا يتضح أمره. وهذا حال الفتن، وشأنها أن يصبح الناس يموجون فيها ولا يتضح لهم فيها أمر ولا تستبين لهم فيها جادة.
ومن لطيف ما يذكر في هذا المقام: قصة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه.
يقول ابن سيرين: «قيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تقاتل؟! - يقصدون في الفتنة التي كانت، والقتال الذي كان بين معاوية وبين علي بن أبي طالب، وكان سعد ممن اعتزل ذلك وابتعد عنه - فقالوا له: ألا تقاتل؟! فإنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟!
فقال: «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان، ولسان وشفتان، يعرف المؤمن من الكافر».
يعني تأتوني بسيف يعرف المؤمن من الكافر، إن ضربت مسلما، نبا عنه لا يقتله، وإن ضربت كافرا، قتله. ثم قال: «فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد» (7).
يعني: مثل هذا القتال الذي تتساقط فيه رؤوس المسلمين، ويقتل بعضهم بعضا، لا أدخل في ذلك إلا أن تأتوني بسيف هذه صفته، ثم ضرب مثلا عجيبا قال فيه -رضي الله عنه-: «مثلنا ومثلكم، كمثل قوم كانوا على محجة بيضاء، فبينما هم كذلك يسيرون، هاجت ريح عجاجة، فضلوا الطريق - اشتبه الطريق بسبب العجاج والريح والتبس عليهم - فقال بعضهم: الطريق، ذات اليمين؛ فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: الطريق ذات الشمال؛ فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: كنا في الطريق حيث هاجت الريح فننيخ؛ فأناخوا فأصبحوا، فذهب الريح وتبين الطريق نقطة فهؤلاء هم الجماعة، قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن» (8).
وكان منهج سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وجماعة من الصحابة أن الحل في الأمر الذي كان بين معاوية وبين علي ليس السيف؛ وإنما الحل السعي في الصلح، والتروي في الأمور، ونحو ذلك، وعلي رضي الله عنه كان له اجتهاده، ومعاوية رضي الله عنه كان له اجتهاده، ولا يعدم من كان مجتهدا متحريا الحق والصواب من أجر الاجتهاد والإصابة، أو أجر الاجتهاد والخطأ وذنبه مغفور، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر» (9)، لكن جماعة من الصحابة رأوا أن الحل في مثل ذلك ليس بالسيف والقتال، وإنما بالسعي في الصلح، والبعد عن القتال، وجمع الكلمة، إلى غير ذلك من المسالك.
الهوامش:
1- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (11/128)، وابن سعد في «الطبقات» (7/165)، وابن عساكر في «تاريخه» (58/146).
2- أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (7/187)، وخليفة في «تاريخه» (ص:52) وابن عساكر في «تاريخه» (58/146).
3- «تاريخ الطبري» (3/26- دار الكتب العلمية).
4- أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (7/142)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/204).
5- أخرجه أحمد (19968)، وأبو داود (4319)، والحاكم (4/576) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وقال الألباني في «صحيح الجامع» (6301): «صحيح».
6- برقم (1848) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
7- أخرجه عبدالرزاق في «المصنف» (20736)، وابن سعد في «الطبقات» (3/143)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1/135).
8- أخرجه بهذا التمام ابن الأعرابي في «معجمه» (713)، والخطابي في «الغزلة» (ص72)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (39/496).
9- أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
لاتوجد تعليقات