رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 4 ديسمبر، 2016 0 تعليق

{وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم}

تجمع مجالس الناس أصنافًا شتى من الحضور، فمنهم العاقل الرزين، ومنهم الساذج المسكين، وأخطرهم صاحب الشبهات، الذي عميت عليه وجوه الرشد، واستبهمت عليه معالم القصد، فتاه في شعاب الباطل، وهام في أودية الضلال، وهو إما موسوس  مبتلى، لا يعرف سبل الحق، واختلطت عليه دروب الرشاد، أو سيء النية، خبيث الطوية يسعى في إضلال الناس وتشكيكهم في دينهم، وأيا ما كان فهو يلقي الشبهات، ويدعم قوله بالأدلة الواهيات، التي تنطلي على البسطاء وضعاف العقول.

النهي عن مجالسة المشككين

     والشرع المطهر ينهى عن مجالسة أمثال هؤلاء المشككين الخائضين في الدين بغير هدى ولا منهج قويم حتى يتركوا خوضهم الباطل فقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (سورة النساء: 140)قال الطبري: «وفي هذه الآية، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسقة، عند خوضهم في باطلهم».

يبين ابن عاشور حكمة النهي عن مجالستهم: «النهي عن مجالستهم في تلك الحالة حتى ينتقلوا إلى غيرها، لئلا يتوسل الشيطان بذلك إلى استضعاف حرص المؤمنين على سماع القرآن؛ لأن للأخلاق عدوى، وفي المثل: «تُعدي الصحاحَ مباركُ الجُرْب».

أي: الجمل الأجرب قد يصيب من يجاورَه من الجمال الصحاح بالعدوى.

مغادرة مجالسهم

وهذا النهي يقتضي الأمر بمغادرة مجالسهم إذا خاضوا في الكفر بالآيات والاستهزاء بها. وفي النهي عن القعود إليهم حكمة أخرى: وهي وجوب إظهار الغضب لله من ذلك كقوله: {تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق}.

     قال الشيخ ابن سعدي مبينا معنى الآية: «أي: وقد بين الله لكم فيما أنزل عليكم حكمه الشرعي (وهي آية سورة الأنعام الآتية) عند حضور مجالس الكفر والمعاصي {أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها} أي: يستهان بها. وذلك أن الواجب على كل مكلف في آيات الله الإيمان بها وتعظيمها وإجلالها وتفخيمها، وهذا المقصود بإنزالها، وهو الذي خلق الله الخلق لأجله، فضد الإيمان الكفر بها، وضد تعظيمها الاستهزاء بها واحتقارها، ويدخل في ذلك مجادلة الكفار والمنافقين لإبطال آيات الله ونصر كفرهم.

المبتدعون

     وكذلك المبتدعون على اختلاف أنواعهم، فإن احتجاجهم على باطلهم يتضمن الاستهانة بآيات الله؛ لأنها لا تدل إلا على حق، ولا تستلزم إلا صدقا، بل وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده، ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم حتى يخوضوا في حديث غيره أي: غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها.

{إنكم إذا} أي: إن قعدتم معهم في الحال المذكورة {مثلهم}؛ لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها، والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى الله به، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها».

     وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (سورة الأنعام:68)، قال ابن عاشور: «ومعنى {إذا رأيت الذين يخوضون} إذا رأيتهم في حال خوضهم.

تعريفهم

     وجاء تعريف هؤلاء بالموصولية (الذين) دون أن يقال الخائضين أو قوما خائضين؛ لأن الموصول فيه إيماء إلى وجه الأمر بالإعراض؛ لأنه أمر غريب؛ إذ شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمارس الناس عرض دعوة الدين، فأمر الله إياه بالإعراض عن فريق منهم يحتاج إلى توجيه واستئناس. وذلك بالتعليل الذي أفاده الموصول وصلته، أي: فأعرض عنهم لأنهم يخوضون في آياتنا.

حقيقة الخوض

والخوض حقيقته الدخول في الماء مشيا بالرجلين دون سباحة ثم استعير للتصرف الذي فيه كلفة أو عنت، فمعنى يخوضون في آياتنا يتكلمون فيها بالباطل والاستهزاء، والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة وحكم بقية المسلمين كحكمه.

     والإعراض عنهم هنا هو ترك الجلوس إلى مجالسهم، وهو مجاز قريب من الحقيقة لأنه يلزمه الإعراض الحقيقي غالبا، فإن هم غشوا مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فالإعراض عنهم أن يقوم عنهم، وفائدة هذا الإعراض زجرهم وقطع الجدال معهم لعلهم يرجعون عن عنادهم.

و(حتى) غاية للإعراض؛ لأنه إعراض فيه توقيف دعوتهم زمانا أوجبه رعي مصلحة أخرى هي من قبيل الدعوة، فلا يضر توقيف الدعوة زمانا، فإذا زال موجب ذلك عادت محاولة هديهم إلى أصلها؛ لأنها تمحضت للمصلحة.

و(القوم الظالمون) هم الذين يخوضون في آيات الله، فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لزيادة فائدة وصفهم بالظلم، فيعلم أن خوضهم في آيات الله ظلم، فيعلم أنه خوض إنكار للحق ومكابرة للمشاهدة».

     وقال الشيخ ابن سعدي: «المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها، ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله، فأمر الله رسوله أصلا وأمته تبعا، إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل، والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره، فإذا كان في كلام غيره، زال النهي المذكور.

فإن كان مصلحة كان مأمورا به، وإن كان غير ذلك، كان غير مفيد ولا مأمور به، وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة بالحق.

     ثم قال: {وإما ينسينك الشيطان}  أي: بأن جلست معهم، على وجه النسيان والغفلة (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) يشمل الخائضين بالباطل، وكل متكلم بمحرم، أو فاعل لمحرم، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر، الذي لا يقدر على إزالته.

     هذا النهي والتحريم، لمن جلس معهم، ولم يستعمل تقوى الله، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال: {وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون} أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى.

وفي هذا دليل على أنه ينبغي أن يستعمل المذكر من الكلام، ما يكون أقرب إلى حصول مقصود التقوى. وفيه دليل على أنه إذا كان التذكير والوعظ، مما يزيد الموعوظ شرا إلى شره، إلى أن تركه هو الواجب لأنه إذا ناقض المقصود، كان تركه مقصودا».

     وأخرج الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله}  الآية  قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم».

     قال النووي: «وفي هذا الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ وأهل البدع، ومن يتبع المشكلات للفتنة، فأما من سأل عما أشكل عليه منها للاسترشاد، وتلطف في ذلك، فلا بأس عليه، وجوابه واجب، وأما الأول فلا يجاب، بل يزجر، ويعزر كما عزر عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغ بن عسيل حين كان يتبع المتشابه».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك


X