رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 11 سبتمبر، 2023 0 تعليق

موقف المسلم من الفتن 2

هذه محاضرة ألقاها الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- يوم الاثنين الرابع من شهر محرم عام خمسة عشر وأربع مئة وألف، خلال الاحتفاء بالمسابقة التي جرت في مسائل تتعلق بالعقيدة في جامع الأمير خالد بن سعود في مدينة الرياض.

 
  • الفتنة بالإ عجاب بالنَّفْسِ والا عتدادِ بالرَّأْي
  • الرجولَةُ فِي العِلْمِ والدِّينِ تحتاجُ إلَى عِلْمٍ وتَقْوَى، فَلْنَفْرِضْ أَنَّكَ رَجُلٌ والإمام أحمدُ -رَحمَهُ اللَّهُ- رَجُلٌ، لكن هل أنتَ في مصاف الإمام أحمد في العِلْمِ
  • داء العُجْبِ مِنْ أشد ما يكونُ ضَررًا عَلَى المَرْءِ ولا سيما طلبةُ العِلْمِ لأنَّ الرَّجُلَ إذَا أُعجِبَ برأيهِ احْتَقَرَ الآخَرِينَ
  • مِنْ أشد مَا يكونُ ضَرَرًا عَلَى الأُمَّةِ إذا تفرَّقَ العُلماء وصارَ كُلُّ واحدٍ منهم له منهَجٌ ومَذْهَبٌ ورَأَيِّ ولمْ يُحاول أحدٌ منهُمْ أنْ يَتَّصِلَ بأخِيهِ إذا خالفه لِيَبْحَثَ معه حتَّى يَصِلَا إلى الاتفاقِ
  • مَنْ عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ عَرَفَ النَّاسُ قَدْرَهُ وَمَنْ أُعْجِبَ بنفسِهِ سَقَطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاس وهذَا مِنَ الفِتَنِ العظيمة
  •  أوْجَبَ طاعةَ ولاة الأمور، لكنَّهُ جَعَلَهَا تابعة لطاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ ولهذا قال: {أَطِيعُوا الله وأطيعوا الرسول وأولي منكم} (النساء:٥٩)، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمْرِ؛ لأنَّ طاعة ولاة الأمور ليستْ مُسْتَقِلَّة، ولكنها تابعة لطاعة الله
  • مِنَ الفتن العظيمَةِ: أَنْ يَكُونَ للأمراء مَنْهَجٌ  وللعلماء مَنْهَجٌ والواجِبُ أنْ يكونَ منهج الجميع واحِدًا لأنَّ العلماء عليهم البيان  والأمراء عليهِمُ التَّنْفِيذُ
  • المسائِلُ الدِّينِيَّةُ دواءٌ للقُلوبِ، فَإِذَا وَصَفَ لكَ عالِمٌ وصفةً، والآخر وصْفَةً أُخْرَى بخِلافِهَا، فَخُذُ بمَنْ تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ أَقْرَبُ للصَّوابِ
 

قال الشيخ العلامة محمد بن صالح بن العثيمين -رحمه الله: مِنَ الفِتْنَةِ مَا يَعْرِضُ لبعض طلبَةِ العِلْمِ، مِنَ الإِعْجَابِ بالنَّفْسِ، والاعْتِدادِ بالرَّأْيِ، واحْتِقارِ الآخَرِينَ، وعدمِ رفْعِ الرَّأْسِ لأقوالِهِمْ، حَتَّى يَتَصَوَّرَ الإِنْسَانُ نفسَهُ وكَأَنَّهُ عَالِمُ الأُمَّةِ وجهبذها، وهذَا الدَّاءُ -أعني: داءَ العُجْبِ- مِنْ أشد ما يكونُ ضَررًا عَلَى المَرْءِ، ولا سيما طلبةُ العِلْمِ؛ لأنَّ الرَّجُلَ إذَا أُعجِبَ برأيهِ احْتَقَرَ الآخَرِينَ، وَلَمْ يَرْفَعْ لآرائِهِمْ رَأْسًا، ولمْ يَرَ فِي مُخَالَفَتِهَا بأَسًا، وتجِدُهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ كَأَنَّهُ يمشي عَلَى الهَواءِ مِنْ شِدَّةِ رَفْعِ العُجْبِ لَهُ.

  حتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لِيَذْهَبُ إِلَى القَوْلِ الضعيفِ الَّذِي ليسَ لَهُ حَقٌّ مِنَ النَّظَرِ فَيَأْخُذُ بهِ، ويَحْتَقِرُ الآخَرِينَ الَّذِينَ عندهُمْ مِنَ العِلْمِ والنَّظَرِ مَا لَيسَ عندَهُ؛ لأنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى حديث لمْ يَعْلَمْ أنَّ لهُ مُعارِضًا، لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، لمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَهُ مُخصَصًا فيأخُذُ بِهِ، وليْتَهُ يَأخُذُ بِهِ وَيَسْلَمُ الآخَرُونَ مِنْ شَرِّهِ، بلْ يَأْخُذُ بِهِ ثُمَّ تَراهُ يُضَلَّلُ مَنْ هُوَ أفْضَلُ منه في العِلْم والدين، وهذا داء عظيم، يُوجِبُ لمَنِ اتَّصَفَ بِهِ -نَعُوذُ باللهِ مِنْهُ- أَنْ يَعْمَى عن الحق -والعياذُ بالله-، ويرى الباطل حقا والحق باطِلًا، ولقدْ سَمِعْتُ عن بعض الصَّغارِ فِي العِلْمِ أَنَّهُ عُورِضَ مَرَّةً مِنَ المَرَّاتِ بقَوْلِ الإمامِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، قيلَ لَهُ: أنتَ تقولُ كَذَا، وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- يقولُ كذَا، فَقالَ: ومَنْ أَحمدُ بنُ حَنْبَلٍ؟ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ رَجُلٌ وأَنَا رَجُلٌ!.

الرجولَةُ فِي العِلْمِ والدِّينِ

            والرجولَةُ فِي العِلْمِ والدِّينِ تحتاجُ إلَى عِلْمٍ وتَقْوَى، فَلْنَفْرِضْ أَنَّكَ رَجُلٌ والإمام أحمدُ -رَحمَهُ اللَّهُ- رَجُلٌ، لكن هل أنتَ في مصاف الإمام أحمد في العِلْمِ، أَوْ فِي الزُّهْدِ، أَوْ فِي التَّقْوَى؟! اتَّقِ اللهِ -يَا أَخِي- في نفسِكَ، واعْرِفْ قَدْرَ نَفْسِكَ، وَمَنْ عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ عَرَفَ النَّاسُ قَدْرَهُ، وَمَنْ أُعْجِبَ بنفسِهِ سَقَطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاس، وهذَا مِنَ الفِتَنِ العظيمة، ولهذا تَجِدُ الرَّجُلَ يتحدَّثُ معكَ -وهُوَ طَالِبٌ عِلْمٍ صغير- وهُوَ شامخ، مُرْتَفِعٌ، لَا يَلِينُ ولا يَتَبَيَّنُ الحَقِّ؛ وذلك سببه الإعجاب بالنفس، وهُوَ مِنَ الفِتَنِ. نسألُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ، وَنَزَّلَهَا فِي مَنْزِلَتِهَا.

الفِتْنَةُ بالتباعُدِ والتباغُضِ

           مِنَ الفِتَنِ مَا يَحْصُلُ بينَ العُلماء، وبينَ العُلماء والدعاة، وبينَ العُلماء والأَمْراء، وبينَ الشُّعوب ووُلاةِ أُمورِهَا، مِنَ التباعُدِ والتباغُضِ، وَكَوْنِ كُلِّ واحدٍ منهم يحفِرُ للآخَرِ، ويَوَدُّ أنْ يَقَعَ فِي هذه الحفرة، وهذا بلاءٌ مِنْ أشد مَا يكونُ ضَرَرًا عَلَى الأُمَّةِ، فإذا تفرَّقَ العُلماء وصارَ كُلُّ واحدٍ مِنَ العُلماء له منهَجٌ ومَذْهَبٌ ورَأَيٌ، ولمْ يُحاول أحدٌ منهُمْ أنْ يَتَّصِلَ بأخِيهِ إذا خالفه؛ لِيَبْحَثَ معه حتَّى يَصِلَا إلى الاتفاقِ، فَإِنَّ هَذَا خَطَرٌ عظيمٌ، وكذلك لو كان هناكَ مُبايَنَةٌ وانفصام بينَ العُلماءِ، أَهْلِ الفِقْهِ والنَّظَرِ وبينَ الدُّعاةِ أَهْلِ الوَعْظِ والتَّأْثِيرِ، فإِنَّ هَذَا ضررٌ عظيمٌ؛ لأنَّ الواجِبَ أَنْ يكون هؤلاءِ وهَؤلاءِ في صف واحد.

تأثير الدعاة

         فالدُّعاةُ يُؤثرُونَ تأثِيرًا مُباشِرًا عَلَى مَنْ يكونونَ حَوْلَهُمْ، وعلَى مَنْ يُحاضِرُونَ عِندَهُمْ؛ لأنَّ اللهَ -تَعَالَى- أعْطاهُمْ مِنَ البيانِ والفصاحَةِ وتَتابع الأسلوبِ وحُسْنِ الاخْتِيَارِ مَا يَكونُ لهُ أثرٌ، وَأَهْلُ العِلْمِ والفِقْهِ والنَّظَرِ لهم شأنهُمْ فِي مَعْرِفَةِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماع والقياس، فإذَا ضَربَ هَؤلاءِ بهؤلاءِ تَفَكَّكَتِ الأُمَّةُ، وَإِذَا انْفَصَمَتِ العُرَى بينَ هَؤلاءِ وهؤلاءِ تَفَكَّكَتِ الأُمَّةُ؛ فالواجِبُ عَلَى الطَّرَفَيْنِ جَميعًا أَنْ يَكُونُوا يدا واحدة، فإذَا أَخْطَأتَ أنتَ أيُّها العالِمُ في حُكْمِ مِنَ الأحْكامِ فَنَبَّهَكَ أحدُ الدُّعاةِ، وصارَ الصَّوابُ معه، فارْجِعْ إلى الحقِّ، لَا تَرْجِعْ إِلَى قَوْلِ فُلانٍ وفُلانٍ، بَلِ ارجع إلى الحق.

خطأ الدعاة في المنهج

           وكذلِكَ أيضًا فالدُّعاةُ إِذَا أخطؤوا فِي مَنْهَجٍ مِنَ المَناهِجِ وَسَارُوا عَلَيْهْ ورَأَوْا أَنَّ فيه إصلاحا، وقد يكون الإصلاح فيه في الوقت الحاضِرِ مَلْمُوسًا، لكن لهُ عَواقِبُ وخيمةٌ أكثر بكثير فِي ضَرَرِهَا كَمَا حَصَلَ مِنَ الإِصْلاحِ، فَعَلَى الدعاة إذا وجهوا التَّوْجِيه السَّلِيمَ الَّذِي تكونُ العاقِبَةُ فيه حَمِيدَةً -وإن كانتِ المَصْلَحَةُ ليستْ سَرِيعة عَجِلَة- أنْ يَأْخُذُوا بهذَا التَّوْجِيهِ، وَأَنْ يَسْتَفِيدُوا مِنْ خبْرَةِ العُلَماءِ ذَوِي الْفِقْهِ والنَّظَرِ.

الفِتْنَةُ فِي التَّفَرُّقِ بينَ وُلاةِ الأُمورِ

 مِنَ الأُمراءِ وُولاةِ الأُمورِ مِنَ العلماء

           مِنَ الفتن العظيمَةِ: أَنْ يَكُونَ للأمراء مَنْهَجٌ، وللعلماء مَنْهَجٌ، والواجِبُ أنْ يكونَ منهج الجميع واحِدًا؛ لأنَّ العلماء عليهم البيان، والأمراء عليهِمُ التَّنْفِيذُ، فإذا وُجِدَ بَيانُ الحَقِّ وَتَنْفِيذُ الحَقِّ صَلَحَتِ الأُمَّةُ، أمَّا إِذَا انْفَرَدَ الأُمراء بأهْوائهِمْ، وانْفَرَدَ العُلماء بما عندهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أمْرُ الأُمَّةِ؛ ولهذا أَمَرَ اللهُ -عَزَوَجَلَّ- بطاعتِهِ وطَاعَةِ رَسُولِهِ وأُولِي الأَمْرِ، فقالَ -تَعالَى-: {يأَيُّهَا الَّذِينَ امنوا أطيعوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُم} (النساء: ٥٩) فأوْجَبَ طاعةَ ولاة الأمور، لكنَّهُ جَعَلَهَا تابعة لطاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ ولهذا قال: {أَطِيعُوا الله وأطيعوا الرسول وأولي منكم} (النساء:٥٩)، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمْرِ؛ لأنَّ طاعة ولاة الأمور ليستْ مُسْتَقِلَّة، ولكنها تابعة لطاعة الله. وليسَ يَعْنِي ذلكَ أَنَّنا لَا نطِيعُ وَلاةَ الأُمورِ إِلَّا فِيمَا أَمَرَ اللهُ بهِ؛ لأَنَّهُ لوْ كانَ هَذَا هُوَ المقصودَ لَمْ يَكُنْ للأمْرِ بطاعَةِ وُلاةِ الأُمورِ فَائِدَةٌ؛ لأنَّ مَا أَمَرَ اللهُ وَجَبَ عليْنَا القيامَ بهِ إذا كانَ واجبًا، سواءٌ أَمَرَ بِهِ وُلاةُ الأُمورِ أَمْ لمْ يَأْمُرُوا.

مُرادُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الآية

         ولكن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ مُرادَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الآية، وأنَّهُ يَجِبُ عليْنَا طاعةُ وُلاةِ الأُمورِ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أَمَرُوا بمَعْصِيَةٍ فَلَا طَاعَةَ؛ لأنَّهُ لَوْ أَمَرَنَا بمعصية مثلا بأنْ قالَ: احْلِقِ اللَّحْيَةَ، فَلَا نُطِيعُهُ؛ لأنَّ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «أَعْفُوا اللَّحَى» وهذا يقولُ: احْلِقُوا اللَّحَى فَلَا يُمْكِنُ أَنْ نُطِيعَهُ لأَنَّنا نقولُ: رَبُّنَا ورَبُّكَ اللهُ، والله أمَرَنَا بإعفائها وإطلاقها، وأنتَ أمَرْتَ بحَلْقِهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ نُطِيعَكَ، فأَنْتَ مِثْلُنَا مَرْبُوبٌ، عبدٌ، يَجِبُ أنْ تُطِيعَ الله، فكيفَ تأمُرُنَا بِمَعْصِيَةِ اللهِ؟! ولهذا قالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ».

إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ

         وقد أَرْسَلَ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً سَرِيَّةً، وأمَّرَ عليهِمْ رَجُلًا، وأمَرَهُمْ بطاعَتِهِ -فِي قِصَّة عَجِيبَةٍ- فَخَرَجَتِ السَّرِيَّةُ ومَعَهَا أميرُهَا، فَغَاضَبُوهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فقالَ لَهُمُ: «اجْمَعُوا حَطَبًا»، فَجَمَعُوا الحَطَبَ -وَجَمْعُ الحطَّبِ ليسَ مَعْصِيةً- ثُمَّ قَالَ: «أَضْرِمُوا فِيهِ النَّارِ» -وإضْرَامُ النَّارِ فيهِ ليسَ بمَعْصِيَةِ أيضًا- ثُمَّ قَالَ: «ألْقُوا أَنْفُسَكُمْ فِي النَّارِ» فَأَمَرَهُمْ أنْ يَنتَحِرُوا، وأنْ يَقْتُلُوا أَنفُسَهُمْ، وهذَا -لَا شكَّ- مَعْصِيَةٌ، فَتَوَقَّفُوا، وقال بعضُهُمْ لِبَعْض: «نحنُ إِنَّمَا اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - خَوْفًا مِنَ النَّارِ، فكيفَ نُلْقِي أَنفُسَنَا فِي النَّارِ؟!» لَا يُمْكِنُ! فلما رَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأَخْبَرُوهُ الخَبَرَ قالَ: «إِنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا» يعني: لاتَّصَلَتْ نارُ الدُّنْيَا بنارٍ الآخِرَةِ -والعياذُ باللهِ-؛ لأنَّ الإِنْسَانَ إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ بِشيءٍ فَإِنَّهُ يُعَذِّبُ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ؛ فإنْ قَتَلَ نفسَهُ بحديدَةٍ صارَ يَطْعَنُ نفسه بهذهِ الحديدَةِ في نارِ جَهَنَّمَ -والعياذُ باللهِ- وإنْ قَتَلَ نفسَهُ بسُمٌ صارَ يَتَحَسَّى هَذَا السُّمَّ في نار جهنَّمَ، وإنْ قَتَلَ نفسَهُ بالتَرَدِّي بإلْقاءِ نفسِهِ مِنْ جِدَارٍ أَوْ مِنْ جَبَلٍ فكذلك. المهم أني أقُولُ: مِنَ الفِتَنِ مَا يَقَعُ بينَ طلبةِ العِلْمِ، وبينَ العُلماء والدعاة، وبين طلبة العِلْمِ والأمراء، فالواجب علينا جميعًا أَنْ نَكُونَ أُمَّةً واحِدَةً، هَدَفنَا واحد، وقَصْدُنَا واحِدٌ، وطريقنا واحِدٌ.

ما يقعُ بينَ العُلماءِ مِن اخْتِلاف

فإنْ قالَ قَائِلٌ: مَا تقولُ فِيما يقعُ بينَ العُلماءِ مِن اخْتِلافِ فِي الفَتَاوَى -وهذا شيءٌ واقع- فتأتي إلَى هَذَا العالم يقول لك: هَذَا حرام، وتأتي إلى الآخَرِ فيقولُ: هَذَا حلال، فهل هَذَا مِنَ الفِتَنِ؟ فالجواب أنْ نَقُولَ: لَوْ أنَّ الناسَ اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ لَكَانَ أَحْسَنَ؛ لأنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَالَ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَحِدَةٌ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: ۱۱۷-۱۱۸) ولكن إذا كان كل واحدٍ منهم لم يتبين لهُ الحَقُّ فِي قَوْلِ صاحِبِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. هَذَا باعتبارِ اختلافِ العُلماء فيما بينهم. أمَّا أنا فَلَا يَلْزَمُنِي أنْ آخُذَ بقول فُلانٍ، ولا يَلْزَمُ فُلانًا أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلي ما دَامَ لمْ يَتَبَيَّن الحق، ولا يُكَلِّفُ الله نفسا إلَّا وُسْعَهَا.

شأنُ الناسِ أمامَ اختلافِ العُلماءِ

لكنْ مَا شأنُ الناسِ أمامَ اختلافِ العُلماءِ؟ هَلْ يَأخُذُ بِقَوْلِ فُلانٍ أوْ بِقَوْلِ فُلانٍ؟ نقول: الأمْرُ -ولله الحمد- واضح، فخُذْ بِقَوْلِ مَنْ تَرَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلى الصواب، إما لغَزارَةٍ فِي عِلْمِهِ، وإِمَّا لِثقَةٍ فِي دِينِهِ؛ لأَنَّ ثِقَتَنَا بِأَقْوالِ العلماء إمَّا لأَنَّهُم أَغْزَرُ عِلْمًا وأوْسَعُ عِلْمًا، وأصَحُ فَهُمَا، أَوْ لأَنَّهُمْ أَخْشَى للَّهِ، وأتقى للهِ -عَزَوَجَلَّ-، فَالَّذِي تَرَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلى الصَّوابِ لغَزَارَةِ عِلْمِهِ وقُوَّةِ إيمانِهِ خُذْ بِقَوْلِهِ، ودَعِ القَوْلَ الآخَرَ، ويَظْهَرُ لكَ ذلكَ بمَا لَوْ كانَ الإِنْسَانُ مريضًا، فَذَهَبَ إلى طبيب، فقال: دَواؤُكَ في كذا وكذا، ثُمَّ ذَهَبَ إلى طبيب آخر فقال: دَواؤُكَ في كذا وكذا، بخلافِ الأَوَّلِ؛ فَسَيَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَصَحُ وأَقْرَبُ للصَّوَابِ. إذًا: المسائِلُ الدِّينِيَّةُ دواءٌ للقُلوبِ، فَإِذَا وَصَفَ لكَ عالِمٌ وصفةً، والآخر وصْفَةً أُخْرَى بخِلافِهَا، فَخُذُ بمَنْ تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ أَقْرَبُ للصَّوابِ، وإنْ تَساوَى عندَكَ الأَمْرَانِ، ولَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُميّز أحدَهُمَا مِنَ الآخَرِ، أو لم تَدْرِ أَيَّهما أَعْلَمُ؛ لأَنَّكَ جَاهِلٌ ولَسْتَ مِنْ أَهْلِ البلد، ولا تَدْرِي مَنْ هُوَ أَعْلَمُ، فهُنا قال بعضُ العُلماء: أنتَ مُخَيَّرٌ، إِنْ شِئْتَ خُذْ بِقَوْلِ فُلانٍ أوْ بِقَوْلِ فُلانٍ؛ لأنَّهُ ليس عندَكَ مَا يُرَجُحُ قَوْلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وقالَ آخَرُونَ: خُذْ بالأشَدُ؛ لأنَّهُ أحْوَطُ. وقالَ آخَرُونَ: خُذْ بالأيسر؛ لأنَّهُ أسْهَلُ وأوْفَقُ لقَواعِدِ الشريعَةِ؛ إذ أنَّ هذه الشريعة -والحمدُ اللهِ- مَبْنِيَّةٌ عَلَى اليُسْرِ والسُّهُولَة، قالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185) وقال -تَعالَى-: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرج} ( الحج: ۷۸)، وقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الدِّينُ يُسْر»، وكان إذا بعث البعوث قالَ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنفُرُوا»، وقال: «فَإِنَّما بُعِثْتُمْ مُسرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسَّرِينَ» فخُذْ بِالأيْسَرِ، ولعلَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوابِ، أَنَّهُ إذَا اختلف عندك عالِمانِ، ولمْ يَتَبَيَّنْ لكَ أَيُّهُما أَرْجَح، فَخُذْ بالأيسر؛ لأنَّهُ أوْفَقُ لقواعد الشريعة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك