رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 25 سبتمبر، 2023 0 تعليق

من مقاصد النهي عن إحياء ذكرى المولد النبوي

  • الحكم ببدعية المولد ليس رأيًا للسلفيين المعاصرين بل هو رأي جمع من علماء المالكية كالشاطبي والشوكاني ومحمد رشيد رضا ومحمد البشير الإبراهيمي والخضر حسين من المتأخرين
  • من أعظم مقاصد النهي عن إحياء المولد: سدّ منفذ من منافذ الغلو في شخصه - صلى الله عليه وسلم -، وهو الأمر الذي حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم
 

ربما يعد بعض الناس الخلاف حول شرعية الاحتفال بالمولد النبوي قضية ثانوية، لا تستوجب هذا الاهتمام من الطرفين، وأنه لا ينبغي تجدد الجدل في كل عام حول أمر طال الحديث عنه وعُرفت آراء الناس بشأنه، لذا من المهم التنويه إلى بعض المقاصد الدينية العليا المرتبطة بالتأكيد على بدعية الاحتفال بالمولد، والنهي عن إحياء هذه المناسبة.

أولاً: منع العبث بمبدأ تعظيم  النبي - صلى الله عليه وسلم - واتّباعه

يمكن القول أننا أمام مفهومين أو منهجين لمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره واتّباعه:
  • الأول: وهو تعظيم أمره واتباع سنته، وهذا المفهوم كان شائعًا في القرون الأولى المشهود بخيريَّتها وفضلها ونموذجيتها في الاقتداء والاتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم .
أما المفهوم الآخر: فهو تحويل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مادة للاحتفال وإنشاد الاشعار والتجاوز في ذلك إلى الغلو في مدحه ووصفه، وقد انتشر هذا المفهوم في القرون الوسطى من تاريخ الإسلام بعد تغير كثير من ملامح الدين الأول الذي عرفه الصحابة وأتباعهم.

حقيقة الخلاف

           وحقيقة الخلاف بين المنهجين تكمن في طريقة تعامل المسلمين مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وشدة ارتباطهم بسنته، فحينما يتخذون سيرته وسنته نهجًا وشعارًا ودستورا يصبح من العبث الاهتمام بالشكليات وإحياء ذكرى ولادته بالمدائح والأشعار وصنع الحلوى؛ إذ لا معنى لذلك والرسول - صلى الله عليه وسلم - حاضر في كل تفاصيل حياتهم، موجّه لأفعالهم وأفكارهم، ولا شيء عندهم مُقدم على العناية بحديثه جمعا وحفظاً وتدويناً وفقهاً لأحكامه ومعانيه.

ضعف التدين

        في المقابل: فإنه عند ضعف التدين وتخلي الناس عن الالتزام بكثير من الواجبات والسنن المستحبَّة، وظهور البدع الفكرية والسلوكية في حياة المسلمين، عندئذ يكون الاحتفاء والاحتفال بالرسول - صلى الله عليه وسلم - على طريقة الأشعار والأناشيد في ذكرى مولده الشريف، فالفارق بين المنهجين هو منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياة أتباعه وأمته.

ثانيًا: سدّ منفذ من منافذ الغلو في النبي - صلى الله عليه وسلم 

من أعظم مقاصد النهي عن إحياء المولد: سدّ منفذ من منافذ الغلو في شخصه - صلى الله عليه وسلم -، وهو الأمر الذي حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - مبكرًا، ويقترن الغلو المذموم ببدعة المولد من وجوه عدة نقتصر على اثنين منها: (1) الخروج عن الحد المشروع في وصفه والثناء عليه - صلى الله عليه وسلم  وقد فتح البوصيري للشعراء الباب أن يطلقوا ألسنتهم بما شاؤوا من عبارات المدح! وقد توسع الشعراء والصوفية في ذلك توسّعًا كبيرًا، فنسبوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خصائص الألوهية، فقصدوه بالدعاء مستغيثين به كما يسأل العباد ربهم ويستنجدونه، وزعموا أنه سبب وجود الأكوان والعوالم، ولولاه لم يخلق الله الأفلاك وأجرام السماء والعرش والكرسي، وأن الكون خُلق من نور محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونحو ذلك من المبالغات والغلو الممقوت شرعا وعقلاً ولا صلة له بمحبة النبي وتوقيره - صلى الله عليه وسلم . (2) القيام عند ذكر ولادته ومن وجوه الغلو التي ابتدعها المتأخرون في ذكرى المولد القيام عند ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم -، والحكم بكفر من يرفض القيام أو الزعم بأن ترك ذلك من علامات الابتداع. (3) إحياء المولد مخالف لمبدأ الاحتفال الديني في الإسلام لو قصدنا الحديث عن الأعياد والاحتفالات الدينية في الإسلام سنجد أنها مميزة بأمرين:
  • الأول: تخصيص الشارع لها دون غيرها من الأيام والمناسبات كيوم الفطر (عيد الفطر) ويوم النحر (عيد الاضحى).
  • الآخر: أن مظاهر الاحتفال في الأيام الفاضلة التي ميزها الشارع وخصها دون غيرها تقتصر على العبادة دون أي طقوس أخرى، ففي يوم عاشوراء: شُرع الصيام، وأيام التشريق وصفها الشارع بأنها أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل-، وفي يوم الجمعة الذي ورد النص أنه يوم عيد جعله الله للمسلمين: شُرع الاغتسال والتبكير إلى صلاة الجمعة والإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والتفرغ للدعاء في آخر ساعة من نهارها رجاء لإدراك الإجابة، وفي الاثنين اليوم الذي ولد وبُعث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - استُحب الصيام، وذلك عامٌّ في سائر السنَة دون تحديد شهر أو يوم بعينه.
وليس فيه تخصيص لذكر المولد بل هو مقرون ببعثته ونزول الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم -، وذكر ولادته يوم الاثنين من باب الخبر، ونظيره: خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يوم الجمعة هو خير يوم طلعت عليه الشمس فيه خُلق آدم، فالجمعة خير من الاثنين مع أن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنبياء وسيدهم.

سبب صيام يوم الاثنين

         بل حتى صيام يوم الاثنين استحب لأسباب أخرى ورد في الخبر من ذلك أن أعمال العباد تُعرض أو تُرفع إلى الله يومي الاثنين والخميس، وفي هذا تأكيد لأن علمنا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد يوم الاثنين كعلمنا بأن آدم -عليه السلام- خُلق يوم الجمعة، فهي معرفة لا يتبعها أي عمل سوى الصيام، وذلك طيلة أسابيع السنة، طلباً لارتفاع الأعمال والعبد صائم، فسائر الأيام والمناسبات التي خصها الشارع بالذِّكر وميّزها دون غيرها من الأيام لم يُشرع غير العبادة دون أي مظهر آخر من مظاهر الاحتفال. ولذلك لم يعرف المسلمون الأوائل الاحتفال بذكرى بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ولادته أو هجرته، أو ذكرى الإسراء والمعراج فضلا عن ذكرى الفتوح والمعارك الكبرى التي شهدها النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتصر فيها على الكفار، كيوم بدر الذي وصفه الله بأنه يوم الفرقان، ويوم الخندق وفتح خيبر وفتح مكة.

خامساً: عدم الاغترار بآراء فقهية صدرت في زمن التصوف

          سبق أن ذكرنا أن الحديث عن شرعية المولد واستحبابه جاء متأخراً عن العمل به، فقد ابتدعت بعض الفرق في القرون الوسطى هذا الاحتفال، واعتاد الناس عليه، ثم ظهرت الفتاوى في تأييداً لهذا العمل، وفي مسائل التعبد والاعتقاد ينبغي الحذر من فتاوى صدرت في القرون الوسطى من تاريخ الإسلام حينما هيمن التصوف على الحياة الدينية وألقى بظلاله على آراء العلماء في مسائل عديدة، تابعوا فيه ما اختاره الصوفية وشرّعوه للعوام، أو لما اعتاده العوام جيلا بعد جيل دون نكير أو تحذير من علماء زمانهم، ورد هذا النوع من الفتاوى يكون بمناقشتها، ونقض أدلة المجيزين من جهة، ومعارضتها بفتاوى معارضة لمبدأ المولد من جهة ثانية.

الحكم ببدعية المولد

وينبغي التأكيد على أن الحكم ببدعية المولد ليس رأياً للسلفيين المعاصرين بل هو رأي جمع من علماء المالكية كالشاطبي والفاكهاني وآخرون ذكرهم الونشريسي في المعيار المعرب، فضلا عن الشوكاني، إلى محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي ومحمد رشيد رضا ومحمد البشير الإبراهيمي والخضر حسين من المتأخرين.    

قصة يرويها فضيلة الشيخ عبدالرزاق البدر عن الاحتفال بالمولد النبوي

        هذه قصة حصلت حول هذا الموضوع قبل سنوات في مثل هذه الأيام، قابلني أحد الزوار لهذه البلاد المباركة في مثل هذه الأيام، وقال -متعجبًا-: «إنني أتعجب كثيرًا من حال الناس في المدينة بلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذه الأيام التي هي أيام مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول: أنا أتعجب لا أرى أي مظهر من مظاهر الاحتفال بالمولد في المدينة ، مع أن المدينة -يقول- أوْلى بلدان الدنيا بالاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم -، فلا أرى في المدينة أي مظهر من مظاهر الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتساءل ما السبب؟ قلت له: لو أنك عرفت السبب لزال عن قلبك العجب، السبب واحد، قال ما هو؟ قلت لأنهم يحبون النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأجل هذا لا يحتفلون بالمولد، قال عجبا! قلت نعم؛ فالمحبة الصادقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا تكون بالمظاهر المبتدعة المحدثة في دين الله ، وإنما المظاهر الحقيقية لمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي اتباعه. قلت له: وإن أردت شاهدًا ودليلا على هذا الأمر فهل تعلم أصدق محبةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - من محبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة بل ومن اتبعهم بإحسان؟ هل تعرف أصدق محبةً من محبة هؤلاء للنبي -[؟ قال: لا، قلت: الصحابة كلهم ما احتفلوا، والتابعون كلهم ما احتفلوا، وهذه الاحتفالات لم تحدث في الأمة إلا في القرن الثالث. ولا يمكن أن يقال إن هذا خير ادخره الله -سبحانه وتعالى- لمن جاء في هذه القرون المتأخرة، وحرم منه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان، بل الحق أنه شرٌ وقى الله -سبحانه وتعالى- الصحابة منه وعافاهم وسلَّمهم من الوقوع فيه، وابتلى به من جاء بعدهم ، وإلا لو كان خيرًا لسبقونا إليه؛ إذ هم السبَّاقون لكل خير.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك