رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 5 ديسمبر، 2023 0 تعليق

من فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة – العلم بفقه المآلات

  • من محاسن الشريعة أنها تراعي الحال والمآل وأنها تنظر إلى نواتج الأعمال فتشرعها لتفتح بها طرقا للخير أو تمنعها لمنع مآلات مبغوضة تضر المكلَّف في دينه أو دنياه
  • فقه المآلات لا ينفك عن فقه الموازنات والأولويات حيث إن كثيرا منه مبني على قاعدة الترجيح بين المصالح والمفاسد
  • فقه المآلات لا ينفك عن فقه الموازنات والأولويات حيث إن كثيرا منه مبني على قاعدة الترجيح بين المصالح والمفاسد
 

من محاسن الشريعة الإسلامية المباركة، أنها تراعي الحال والمآل، وأنها تنظر الى نتائج الأعمال فتشرعها لتفتح بها طرقا للخير، أو تمنعها لمنع مآلات مبغوضة تضر المكلَّف في دينه أو دنياه؛ لذلك كان العلم بفقه الموازنات والأولويات وفقه المآلات، من العلوم المهمة الشريفة التي تهدي صاحبها -بإذن الله -تعالى- إلى السداد والصواب في الأحكام والمواقف، وفي الغفلة عنه وعدم العناية به يكون التخبط والشرور والعواقب السيئة؛ فتكثر المواقف والأحكام الخطأ التي يتسرع فيها أصحابها كانت نتيجة ردود أفعال غير مدروس عواقبها ومآلاتها.

       وإن عدم الأخذ بفقه المآلات أو التهاون فيه لا يتوقف ضرره على التخبط والأخطاء في مجال الأحكام الفقهية فحسب، بل قد يتجاوزه إلى العقائد وما قد تتضرر به عقيدة الولاء والبراء من جراء إغفال هذا العلم الشريف، ومن تأمل ما جرى على الإسلام وأهله من الفتن الكبرى والصغرى، قديما وحديثا، يرى أن أغلبها جاء من إضاعة هذه الأصل، وأن الحاجة إلى الفقه فيه ماسة وضرورية؛ لتخليص الأفكار والمواقف من النزعة الشكلية وردود الأفعال المتسرعة التي تكون عقبة في المواجهات الفعالة.

توجيهات دقيقة جامعة

      والقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة جاءت بتوجيهات دقيقة جامعة مانعة في نشر الخير وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وتربية الدعاة على أن تكون أفعالهم وردود أفعالهم وليدة التأني والتفكير في المآلات والعواقب، بدل الحماسة المفرطة التي توصل صاحبها إلى حد التهور أو السطحية التي تفضي بصاحبها إلى الهلاك.

أقسام الناس في مراعاة المآلات

ينقسم الناس في مراعاتهم لمآلات الأفعال في ردود الأفعال إلى ثلاثة أقسام:
  • الأول: من يتخذ رد الفعل دون تفكير في نتائجه ومآلاته وما يحدثه من ردود أفعال ممكنة.
  • الثاني: من يتخذ رد الفعل مع تفكيرٍ في بعض مآلاته دون الأخرى أو تغليب جانب من المآلات وإهمال أخرى.
  • الثالث: من يتخذ رد الفعل مع تفكير جدي في كل مآلاته الممكنة والمحتملة أو جلها.

قاعدة سد الذرائع

     والعلم بفقه المآلات ينبني عليه قواعد شرعية، من أهمها: (قاعدة سد الذرائع) التي عظّم أهل العلم شأنها ووصفها الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- بأنها تمثل ربع الشريعة وذلك في قوله -رحمه الله -تعالى- : وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان، أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان، أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة. فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين. والأدلة على هذه القاعدة من القرآن الكريم كثيرة أشهرها: قوله -تعالى-: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام:108)، وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- أمثلة لهذه القاعدة أوصلها إلى تسعين وجها من القرآن والسنة، واعتبار المآلات أصلا من أصول الفقه جارٍ على مقاصد الشريعة؛ لأنه يحدد كثيرا من المواقف والممارسات متى نقْدُم؟ ومتى نُحْجم؟ ومتى نصرح؟ ومتى نلمّح؟ ومتى نداري؟ ومتى نواجه؟...إلخ.

ضرورة اعتبار المآلات في فتوى المجتهد

       وينبه الشاطبي -رحمه الله تعالى- إلى ضرورة اعتبار المآلات في فتوى المجتهد فيقول: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا سواء كانت الأفعال موافقة أم مخالفة؛ وذلك أن المجتهد لا يجتهد على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه فعله. ويقول أيضا: هو مجال للمجتهد صعْب المورد إلا أنه عذب المذاق، محمود الغِبّ، جارٍ على مقاصد الشريعة. أي أن المجتهد، حين يجتهد ويحكم ويفتي، عليه أن يقدر مآلات الأفعال التي هي محل حكمه وإفتائه، وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه، وألا يعتبر أن مهمته تنحصر في «إعطاء الحكم الشرعي»؛ بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو يستحضر مآله أو مآلاته، وأن يُصدر الحكم وهو ناظر إلى أثره أو آثاره، فإذا لم يفعل، فهو إما قاصر عن درجة الاجتهاد أو مقصر فيها، وهذا فرع عن كون (الأحكام بمقاصدها»؛ فعلى المجتهد الذي أقيم متكلما باسم الشرع، أن يكون حريصًا أمينا على بلوغ الأحكام مقاصدها، وعلى إفضاء التكاليف الشرعية إلى أحسن مآلاتها.

أحوال الأعمال مع مآلاتها

والأعمال بالنسبة لمآلاتها أربعة أقسام:
  • الأول: ما يكون أداؤه يؤول إلى الفساد قطعيا: كمن حفر بئرًا مكشوفة في طريق المسلمين فهذا ممنوع بالإجماع.
  • الثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرًا، فهذا كزراعة العنب مع أنه قد يتخذ خمرا، فهذا حلال لا شك فيه.
  • الثالث: ما يكون أداؤه إلى المفسدة من باب غلبة الظن كبيع السلاح وقت الفتن وبيع العنب للخمار وهذا ممنوع أيضا.
  • الرابع: ما يكون أداؤه إلى المفسدة دون غلبة الظن، كالبيوع التي تتخذ ذريعة للربا وهذا موضع خلاف.

لا ينفك عن فقه الموازنات

       والمتأمل في فقه المآلات يرى أنه لا ينفك عن فقه الموازنات والأولويات؛ حيث إن كثيرا منه مبني على قاعدة الترجيح بين المصالح والمفاسد، وأيهما أولى بالتقديم والارتكاب بحسب درجة تحققهما في الواقع وبحسب أهميتهما.

مثال إنكار المنكر

        ومن ذلك إنكار المنكر وأن غايته إزالته أو تخفيفه أو حدوث المعروف، فإذا كان الإنكار سيؤدي إلى منكر أكبر منها، فإنه لا يسوغ إنكاره، ويتضح من هذا أن القواعد الشرعية مرتبطة بعضها ببعض، والفقه في إنكار المنكر وما يؤول إليه يمكن إدخاله تحت فقه المآلات، كما أنه يدخل تحت قاعدة سد الذرائع كما سبق ذكره، ويمكن أن يندرج أيضًا تحت قاعدة (تغيير الفتوى بتغير الحال والزمان والمكان). بهذا جاءت الشريعة المباركة؛ فلا تنظر للعمل الآني فقط، بل تنظر إلى نواتجه ومآلاته فحصلت للمكلف مصالحه حالا ومآلا في الدنيا، ومآلا في الآخرة.  

النظر في المآلات أصل من أصول الشريعة

       النظر في مآلات الأفعال معتبَرٌ ومقصود شرعًا، سواء كانت هذه الأفعال مأذونًا فيها شرعًا أم منهيًّا عنها، فعلى المجتهد قبْل الحكم على فعل من أفعال المكلفين أن ينظر إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ فقد يرى أن الفعل مشروع لمصلحة فيه، أو ممنوع منه لمفسدة فيه، ولكن له مآل على خلاف ذلك؛ فإطلاق القول في الأول بالمشروعية دون نظر إلى مآله، وفي الثاني بالمنع دون نظر إلى مآله تعجل لا ثمرة له؛ إذ قد يؤدي الفعل الأول إلى مفسدة مساوية، أو زائدة على المصلحة التي رُئِيت فيه في بادئ الأمر، وكذلك الفعل الآخر فقد يؤدي إلى دفع مفسدة مساوية أو زائدة، «والشريعة مبنية على الاجتهاد، والأخذ بالحزم، والتحرر مما عسى أن يكون طريقًا إلى مفسدة»، ولذا؛ كان النظر في المآلات أصلًا من أصول الشريعة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك