رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 2 نوفمبر، 2010 0 تعليق

من روائع أوقاف المسلمين (2-4)

 

الوقف بأحكامه وشروطه المتقنة اختص به المسلمون فهو من خصائص الإسلام؛ قال عنه النووي رحمه الله: وهو مما اختص به المسلمون. وقال الشافعي رحمه الله: لم يحبس أهل الجاهلية دارا ولا أرضا فيما علمت.

فالأمم الأخرى لم تعرف الأوقاف التي تكون خالصة لله تعالى، ولم تكن بنظام يحافظ عليها وينميها كنظام الوقف في الإسلام، الذي يعد مجالاً أساسياً من مجالات استنهاض الأمة والمحافظة على مكانتها وكرامة أفرادها.

فالوقف يحقق مصالح عظيمة؛ ففيه الحفاظ على المساجد والمعاهد والمستشفيات والخدمات ومساعدة الضعفاء والفقراء، وصلة للأرحام والأحباب، ورعاية العلم والعلماء وطلبته، والمحافظة على قوة الأوطان بنماء الاقتصاد والتخفيف من الأعباء، ومشاركة المجتمع في حل الإشكالات التي تعتري الأمة وتاريخ حضارة الأمة الإسلامية مليءٌ بالنماذج الرائعة المبدعة في التصدق بأوقاف لترعى مصالح البلاد والعباد.

وسنخصص هذه الحلقة من حلقات روائع أوقاف المسلمين، لذكر إبداعات الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وروائعه حينما حرر القدس وفلسطين من أيدي الصليبيين، وأراد أن يعيد الحياة للقدس وليهيئ مرافقها لاستقبال من شد الرحال إلى المسجد الأقصى وجاوره بقصد، وإعادة الطابع الإسلامي لها، ولا شك أن ما قام به صلاح الدين من الأوقاف الكثيرة التي أوقفها أعاد للمدينة المباركة الحياة، وأسهم في رجوع المسلمين والاستقرار في القدس.

صلاح الدين الأيوبي وإحياؤه للأوقاف في القدس:

لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالآذان، وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، وأقيمت أول جمعة في اليوم الرابع من شعبان، بعد يوم الفتح بثمان، فَنُصِبَ المنبر إلى جانب المحراب، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، وعُين للخطابة القاضي محيي الدين محـمد بن زكي الدين علي.

وحملت المصاحف ورممت المساجد، ولكي تستمر وتدب الحياة في المدينة أول ما فكر فيه صلاح الدين الأوقاف، فحبس الأوقاف - بداية - التي تصرف على إمام المسجد الأقصى والعاملين فيه، ثم تتالت الأوقاف التي طالت كل ما يصلح البلاد والعباد، التي سأعرضها على سبيل المثال لا الحصر؛ لنعي كيف كانت وما زالت الأوقاف تجارة رابحة في الدارين وتنمية وبناء للاقتصاد الإسلامي.

ومن المنشآت التي أقامها صلاح الدين:

1. الخانقاه الصلاحية: أوقفت للزاهدين والعابدين إيواء وتجمعاً لمجالسهم في 585 هـ، ووقف عليها السلطان طاحوناً وفرناً وحماما وحوانيت مجاورة وبركة ماء وقطعتي أرض مجاورتين وكذلك صهريجين، وتضم الخانقاه: مسجداً وغرفاً للسكن ومرافق عامة، وعين للوقفية ناظرا.

2. المدرسة الصحية: أنشئت عام 583هـ ووقفها السلطان عام 588هـ، وخصصت لتدريس المذهب الشافعي، ووقف عليها الكثير من الأملاك، ومن ضمنها: سوق العطارين في القدس ووادي سلوان (جنوب شرق القدس) – حمام في باب الأسباط، وقرية عين سلوان وفرن في محلة باب حطة، ودور متفرقة في القدس، وبستان بئر أيوب وأراض أخرى.

3. البيمارستان الصلاحي: حيث أمر السلطان صلاح الدين بأن تجعل الكنيسة المجاورة لدار الاستبار بيمارستاناً للمرضى - أي مستشفى - ووقف عليه مواضع وزوده بالأدوية والعقاقير؛ حيث كان علم الطب يُدّرس فيه إلى جانب ممارسته عملياً، وأوقفت 40 بيتاً وفرناً في محلة القطانين وقبواً وطاحوناً و13 دكانا في سوق الزيت و22 حانوتا في سوق الزيت و6 مخازن وصهريج كبير و16 قيراطاً من مزرعة حارة الإفرنج، وغرس زيتون تعرف بالتربة، وحكر خان الزيت مع حكر قبان الزيت، وقطعة أرض (المصرارة) ظاهر القدس منها 16 قيراطا حصة وقف البيمارستان.

4. وقف لمصالح المسجد الأقصى المبارك: حيث أوقف صلاح الدين على مصالح المسجد الأقصى سوقاً لبيع الخضراوات وسوقاً لبيع القماش.

5. كتّاب تعليم القرآن الكريم: فقد أنشأ صلاح الدين « كتّاباً « لتعليم القرآن الكريم مقابل المسجد الأقصى، ووقف عليه داراً للإنفاق عليه.

6. المدرسة الخثنية: أوقف صلاح الدين المدرسة الخثنية على رجل من أهل التقوى والصلاح، جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد الشاشي، من بعده على من يحذو حذوه. وقد وقف على هذه المدرسة في القرن العاشر دار بخط القطانين.

7. وأوقف مقبرة باب الساهرة: وكانت تسمى في السابق «مقبرة المجاهدين»، ولا تزال لليوم مقبرة للمسلمين مع اندثار قسمها الشرقي، وتعدى اليهود على أراضٍ منها.

8. المدرسة الميمونية: وقفت سنة 593هـ، ومن أوقافها قرية بيت دجن الكائنة في جبل نابلس، وفي عام 1892م جعلها الأتراك مدرسة إعدادية، وبعد الاحتلال البريطاني أصبحت مدرسة للبنات، وتوجد فيها الآن المدرسة القادسية وهي مدرسة ثانوية.

أوقاف في العصر الأيوبي:

1. المدرسة الجراحية (الزاوية الجراحية): وقفت قبل عام 598هـ وجعل لها وقف ووظائف مرتبة (وقفها الأمير حسام الدين الحسين بن شرف الدين عيسى الجراحي وهو أحد أمراء السلطان صلاح الدين).

2. المدرسة الأفضلية: وقفت سنة 589هـ على فقهاء المالكية في القدس، وقد أزيلت بعد احتلال اليهود للقدس عام 1967م.

3. حارة المغاربة: أوقفت الحارة على المغاربة الذين شدوا الرحال إلى القدس.

4. المطهرة: وقفت سنة 589هـ وتتكون من مجموعة من الغرف المخصصة للطهارة وأماكن للوضوء ونزل: قسم للرجال، وقسم للنساء، ومجموعة غرف تؤجر لوقف المسجد الأقصى.

5. وكثير من الأوقاف الأخرى: كمقبرة الشهداء ومقبرة ماميلا.

6. المدرسة المعظمية: وقفت على الفقهاء من أصحاب الإمام أبي حنيفة سنة 614هـ (1217م) ومن أوقاف هذه المدرسة: «قرية بتير وقرية علاّر الفوقا وقرية علاّر السفلى وقرية دير السد ومزرعة دير السلام بالقرب من قرية رامة». وقد أصبحت – للأسف- تلك الأوقاف في الغالب بأيدي الناس إقطاعاً وملكاً.

7. القبة النحوية أو المدرسة النحوية: أنشئت عام 604هـ - 1207م وخُصصت لتدريس العلوم العربية، ووقف عليها قرية تسمى بيت لقيا بالقرب من القدس.

8. المدرسة البدرية: وقُفت على أصحاب المذهب الشافعي سنة 610هـ - 1213م وهي الآن دار للسكن، وقد كان لها أوقاف وقفت عليها.

9. سبيل شعلان: بني هذا السبيل سنة 613هـ - 1216م وأوقف لهذا السبيل بئر وصهريج ماء.

ومن أوقاف العصر الأيوبي أيضاً: قرية دير عامر، وقرية برير (بيت إبرير)، وتربة بركة خاتون حيث جددت ووسعت التربة في العصر المملوكي، وقبة موسى حيث أنشئت عام 647هـ - 1249م لإقامة الشيوخ وهي الآن مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم.

وامتاز العهد الأيوبي بإنشاء المدارس والمعاهد والمراكز للطبابة والأسبلة والزوايا والمساكن والمقابر، وأوقفت لتلك الأوقاف أوقاف تدر ريعاً ليصرف عليها، فكانت مؤسسات خدماتية واقتصادية لخدمة سكان المدينة وزوارها... فكانت الأسواق والحمامات والخانات (الفنادق) التجارية أصلا ثابتا وريعا دائما.

وهكذا أعاد الناصر الفاتح صلاح الدين الأيوبي الحياة إلى القدس بأن أوقف الأوقاف التي طالت كل مناحي الحياة؛ ليصرف من ريع الأوقاف على المسجد الأقصى وتسهيل شد الرحال والمكوث في القدس، وتوفير الطعام والشراب والمأوى والتعليم والطبابة لأهل القدس وما حولها.

وعادت الحياة إلى القدس سريعاً بعد أن غُيب عنها المسلمون 91 عاماً، وهي في ظل رماح الاحتلال الصليبي، وخلال أقل من سنة كانت القدس تُقصَد ويشد إليها الرحال ويتقرب إلى الله في مجاورة المسجد الأقصى، وبفضل الله تعالى ثم فقه وحنكة الناصر صلاح الدين أعيدت الحياة الاقتصادية للقدس، وبعودتها عاد النبض لكل مناحي الحياة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك