رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 28 مايو، 2024 0 تعليق

مفهوم الحوكمة وتعريفاتها – الحوكمة في المؤسسات الوقفية والخيرية بين التنظير والتطبيق

  • الحوكمة إداريا هي مجموعة من القواعد والإجراءات الدّاخليّة التي توفّر ضمانات تحقيق حرص المديرين على حقوق المُلّاك والمحافظة على حقوق الأطراف ذات المصالح بالمنظّمة
  • يشير اصطلاح الحوكمة من المنظور القانوني إلى الإطار التشريعي والقواعد القانونيّة التي تحمي مصالح الأطراف ذوي العلاقة بالمؤسسة أو الشركة
 

من الطبيعي في النّشاط العلمي والتّنموي عمومًا، أن تدعو المضايق والأزمات كلّ المفكّرين والمنتجين علميًّا إلى البحث عن الحلول المناسبة لها، والمخارج المطلوبة لإنقاذ الأفراد والمجتمعات من الانهيارات الاقتصادية أو الاجتماعيّة أو الأخلاقيّة المختلفة؛ لذلك نجد كثيراً من الإنتاج الفكريّ عموماً كان المحرّك والمحفّز الأساسي له أزمة من الأزمات، بل إنّ كثيراً من الفلسفات الموغلة في القِدَم في التّاريخ الإنساني هي وليدة أزمات، أو نشأت للتّعاطي مع حاجةٍ ملحّةٍ معيّنة، وإدارة التّعامل معها.

        وحركة الاقتصاد العالمي في العقود الأخيرة، وما عانى منه من نكبات وعثرات واجهتها العديد من الاقتصادات المستقرّة نسبيًّا والاقتصادات النّاشئة، فرضت على نحوٍ ضروريّ التفكير في تأسيس -أو صياغة- نظامٍ فعّال ومنتج لتطبيق المبادئ الإداريّة التي يرتبط التقدّم والنّجاح بها عادةً، مثل: الشفافية والنزاهة والكفاءة والخبرة والفاعليّة والرّقابة.

الحاجة لهذا النّظام

       وقد برزت الحاجة لهذا النّظام باعتبارها نتيجةً طبيعيّةً لرصد مواطن كثيرة من القصور في تطبيق المبادئ المشار إليها؛ حيث أعقب ذلك انهيارات وتراجعات انعكست سلباً على كلّ المتعاملين مع المؤسّسات التي تعاني من ذلك القصور، كما انعكست على الاقتصاد العالمي، وبعد تفتُّت العالم الإسلاميّ فيما بعد سقوط الخلافة الإسلاميّة وانتهاء حقبة الاحتلال الغربي التي تلت ذلك، نشأت الدّول الإسلاميّة الحديثة التي لا تخلو أيّ منها من مؤسّسة أو مؤسّسات حكوميّة أو غير حكوميّة تختصّ بإدارة الأوقاف ورعايتها، وهي الحالة التي انتهت بها تقريباً حقبة التفرُّد والارتجال في إدارة الوقف والتحكُّم فيه بالإرادة المنفردة، بل اكتسب العمل الوقفي الطّابع المؤسّسي كاملا.

المؤسّسة الوقفيّة

        وبما أنّ المؤسّسة الوقفيّة تتكوّن من الجانب الإشرافي الإداري (النّظارة)، وجانب الأصل المادّي (الموقوف)، وجانب الجمهور المستفيد (الموقوف عليهم)، والجانب الممثّل للدّولة (القضاء)، وكذلك ما ينشأ للوقف -أو عليه- من الحقوق استناداً لشخصيّته الاعتباريّة، فإنّ كلّ هذه المكوّنات تربطها علاقات لا بدّ من تنظيمها وإحكام إطارها إداريًّا، في قالب من النّزاهة والشفافيّة والإفصاح عن الحقوق والواجبات والأخلاقيّات، ومن هنا كانت «حوكمة الوقف» ضرورةً إداريّةً عصريّة.

أولاً: معنى الحوكمة ومفهومها

        الحوكمة لغةً:  «حوكمة» على وزن «فوعلة»، وهي بهذا المبنى الاشتقاقيّ ليست من الألفاظ المأنوسة في اللّغة العربيّة؛ ولذلك فقد اجتهد المختصون في وضع تعريف لها بعد تنوّع الترجمات الحرفية لهذا المصطلح العالمي، وقد أحصى الباحثون ثمانية عشر مرادفًا عربيًّا لكلمة (governance)، وبما أنّ إطلاقه عموما اقترن بإدارة الشركات وتنظيم أدائها، فقد أُطلق على هذا النّظام مركبات إضافيّة عدّة على سبيل التّلقيب استنادًا إلى الترجمة الحرفية، مثل: (حكم الشركات) أو (حكمانية الشركات) أو (التحكم المؤسسي) أو (حاكمية الشركات)، وكلها تدور حول معنى الحكم والرقابة على الشركة وتنظيم أدائها وعلاقاتها. ولفظ (حوكمة) لم يرد في المعاجم العربية على هذا الوزن كما أشرنا، لكن المصطلح الشائع (الحوكمة) لقي استحسانًا من مجمع اللغة العربية وأقرَّه عام 2002م، والمعنى العام للحوكمة من مادة لفظ (حَكَم)، والعرب تقول: حكمتُ، وأحكمتُ وحكَّمتُ؛ بمعنى: مَنعتُ وردَدَتُ، ومن معاني كلمة (حَكَم): حَكَمَ الشيء وأحكمه، كلاهما: منعه من الفساد، وأحكم الأمر: أتقنه، وأحكمت الشيء فاستحكم: صار مُحْكَمًا، وكلُّ من منعته من شيءٍ؛ فقد حَكَّمتَه وأَحكمته.

الحوكمة اصطلاحًا

         نظراً للتّكوين المتدرّج لمعنى هذا المفهوم في أذهان المتخصّصين، وفي أدبيّات الهيئات العالميّة المتخصّصة، وتنوُّع الدّوافع للكتابة فيه، فإنّه لم يُتّفق حتى اللحظة على تعريف واحد له، وإنْ كان جوهره وأهدافه وماهيّته مُدْركة إدراكاً عامًّا لجميع الذين يتداولونه.

تعريفات متداولة

        عرّفته منظّمة التّعاون الاقتصادي والتّنمية (OECD) (2004م)، فقالت الآتي: «إنّ حوكمة المؤسّسات تتضمّن مجموعة من العلاقات بين إدارة المؤسّسة ومجلس إدارتها ومساهميها، وذوي المصلحة الآخرين، وتقدّم حوكمة المؤسّسات أيضاً الهيكل الذي من خلاله تُوضع أهداف المؤسّسة، وتُحدَّد وسائل إنجاز تلك الأهداف، والرّقابة على الأداء»، وعرّفها البنك الدّولي بأنّها: «التنمية والتطوير الإداري للشركة، ويكون ذلك من خلال خبرتها، والبرامج التي تطرحها، والمشروعات التي تنفذها، ونوع التكنولوجيا التي تستخدمها؛ لبناء مؤسسات منفتحة وفعّالة وخاضعة للمساءلة».

أبعاد المفاهيم

ومن الأمور التي تسعف في إدراك أبعاد المفاهيم عموماً، تعريفها على اختلاف اعتبارات التعريف، وتنوّع زاوية النّظر، ويمكن الاستفادة من ذلك هنا لتحقيق مزيدٍ من الإيضاح لمعنى الحوكمة، فنقول:

المفهوم القانوني للحوكمة

         يشير اصطلاح الحوكمة -من المنظور القانوني- إلى الإطار التشريعي والقواعد القانونيّة التي تحمي مصالح الأطراف ذوي العلاقة بالمؤسسة أو الشركة، وتناولها كُتّاب القانون على أنّها إطار متكامل من القواعد القانونيّة الحاكمة لإدارة شؤون المشروعات والمنظّمات في مواجهة الأطراف المستفيدة، ومن ثم يهتمّ القانونيّون بالقواعد القانونيّة والنّواحي الإجرائيّة التي توفّر متطلّبات المحافظة على الكيان المؤسّسي للشّركات، وتوفير ضمانات الحماية لحقوق الأطراف ذوي العلاقة أو المستفيدين من نشأة الشّركة، وبقائها، ونموّها.

المفهوم الإداري للحوكمة

         يمكن أن يقال استنداداً إلى بعض الكتابات الإدارية: الحوكمة هي مجموعة من القواعد والضّوابط والإجراءات الدّاخليّة في المؤسّسة، التي توفّر ضمانات تحقيق حرص المديرين على حقوق المُلّاك، والمحافظة على حقوق الأطراف ذات المصالح بالمنظّمة، أو هي مجموعة ممارسات تنظيميّة وإداريّة تضبط العلاقة بين أصحاب المصالح المختلفة، بمن فيهم متلقّو الخدمة، وتحمي حقوق الأطراف ذوي العلاقة من الممارسات الخاطئة للمديرين.

المفهوم المحاسَبي للحوكمة

         هي توفير مقوّمات حماية أموال المستثمرين، وحصولهم على العوائد المناسبة، وضمان عدم استخدام أموالهم في مجالات أو استثمارات غير آمنة، وعدم استغلالها من قِبل الإدارة لتحقيق منافع خاصة، ويتم ذلك من خلال مجموعة الإجراءات والضوابط والمعايير المحاسَبيّة، وتركّز هذه النّظرة على تحقيق الشفافيّة وتوسيع نطاق الإفصاح عن البيانات المحاسَبيّة والقوائم الماليّة ومزايا المديرين وتطبيق المعايير المحاسَبيّة المتعارف عليها دوليًّا، ومن خلال هذا العرض المتنوّع يمكننا استشراف أهميّة حوكمة المؤسّسات الوقفيّة، لأنّنا نعلم بالتجربة تعدُّد مكوّنات المؤسّسة الوقفيّة وضرورة ضبط العلاقات بينها، كما نعلم أنّ الكثير من الأوقاف قد ضاعت بسبب الفساد الإداري والاعتداء عليها من النُّظَّار والمتولّين أحياناً، أو بسبب الثّغرات القانونيّة وضعف التشريعات القضائيّة الخاصّة بالوقف؛ الأمر الذي سلَبَهَا صفة الرّدع والزّجر، وجرّدها من إمكانيّة تحقيق الحماية والصّيانة للأصول الوقفيّة.

من آثار الحوكمة ومنافعها

        وذلك مع ملاحظة أنّ من آثار الحوكمة ومنافعها أنّها تشكّل شهادة تميُّز للمؤسّسة من خلال ضمان الأداء السّليم للعمل، ويعد تطبيقها تطبيقاً راشداً حافزاً أساسيًّا للاستثمار في المؤسّسة أو الشّركة؛ لأنّ تطبيق هذا النّظام يمنح حقّ الرقابة على المؤسّسة لذوي الكفاءة والاختصاص، وينأى بها عن الفرديّة والمزاجيّة والعشوائيّة والارتجال واللّامبالاة في الإدارة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك