رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: forqan 4 أكتوبر، 2010 0 تعليق

مدرسته امتداد لنهج الصحابة الكرام- منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير العقيدة والاستدلال عليها

ابن تيمية رحمه الله أحد الأئمة الأعلام، الذين نشروا معتقد السلف ودافعوا عنه، وهو يعد من أكبر شُرّاح اعتقاد السلف، المستدلين لمسائله وجزئياته وتفصيلاته، ما بين رسائل صغيرة، وكتب، ومجلدات ضخمة. إن ابن تيمية -رحمه الله- الذي جدد للأمة عقيدتها في القرن الثامن الهجري لم يكن ينصر نحلة معينة، أو يؤيد مذهباً وطريقة غير طريقة السلف الصالح التي معتمدها كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله [، وقد صرّح رحمه الله بهذا في مواضع متعددة من كتبه، فمما قاله حين نوظر؛ لأجل العقيدة الواسطية:

«مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحداً قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي، ولا انتصرت لذلك، ولا أذكره في كلامي، ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها».

 

 وقد كان رحمه الله يركز على الاعتقاد؛ لأن أمره خطير عظيم، ولذا لما التمس منه تلميذه البزار (ت 749هـ) أن يؤلف نصاً في الفقه يجمع فيه اختياراته وترجيحاته، ويكون عمدة في الإفتاء بيّن له ابن تيمية رحمه الله أن الفروع أمرها قريب، بخلاف الأصول؛ إذ كثير من أهل الأهواء الذين أسسوا الطوائف والفرق الضالة، كان قصدهم إبطال الشريعة، فأوقعوا الناس في التشكيك في أصول دينهم.

ولذا قال -رحمه الله-: «فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم، وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم...».

إلى أن قال: «فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جُلّ همي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم، وأجبت عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة العقلية والنقلية».

وسأحاول تلمس أبرز معالم منهجه في تقرير العقيدة - إجمالاً - ثم أبرز معالم منهجه في الاستدلال عليها بشيء من الاختصار.

أما منهجه في تقرير العقيدة فيمكن أن يتضح من معالم متعددة أبرزها:

1 - تعظيم نصوص الشريعة، وإجلالها، والصدور عنها؛ لقول الله - تبارك وتعالى -: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65)،

وقال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور: 63).

وقد وصف -رحمه الله- أهل العلم والإيمان بأنهم «يجعلون كلام الله وكلام رسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقاً، وما خالفه كان باطلاً».

وجعل من طريقة أهل السنة والجماعة: «اتباع آثار رسول الله [ باطناً وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.... ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد [، ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس...».

فهذه هي طريقته، وهذا هو منهجه: تعظيم النصوص، من الكتاب والسنة، بوجود مهابتها في النفس، والتسليم لها، واستنباط الحكم الشرعي منها وفق القواعد المرعية عند أهل العلم بها.

2 - دعم النصوص الشرعية، وتأييدها بأقوال سلف الأمة، وعلمائها المعتبرين، ويظهر هذا الأمر من إكثار ابن تيمية رحمه الله من النقل عنهم، وجعل أقوالهم حجة يستند إليها في توضيح النص وبيانه.

وقد أخذ ابن تيمية -رحمه الله- على نفسه ألا يقول بقول إلا وهو مسبوق إليه، فلا ينفرد بقول لم يقل به أحد قبله، فضلاً عن عدم مخالفة إجماع المسلمين في أي مسألة من المسائل.

قال -رحمه الله- عن نفسه: «.. أن المجيب - ولله الحمد - لم يقل قط في مسألة إلا بقول سبقه إليه العلماء، فإن كان قد يخطر له ويتوجه له فلا يقوله وينصره إلا إذا عرف أنه قد قاله بعض العلماء.. فمن كان يسلك هذا المسلك كيف يقول قولاً يخرق به إجماع المسلمين، وهو لا يقول إلا ما سبقه إليه علماء المسلمين».

وهو -رحمه الله- يسلك هذا المنهج؛ لأنه يرى أن الحق دائماً مع السنة والآثار الصحيحة، فحين تحدث رحمه الله عن السلف قال: «الصواب معهم دائماً، ومن وافقهم كان الصواب معه دائماً لموافقته إياهم، ومن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين؛ فإن الحق مع الرسول، فمن كان أعلم بسنته، وأتبع لها كان الصواب معه، وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله، ولا يضافون إلا إليه، وهم أعلم الناس بسنته وأتبع لها».

وبين أن كلام السلف مؤتلف غير مختلف، فلا يتعارض؛ لوحدة المنهج والمصدر، فإذا اجتمع بعضه إلى بعض زال الإشكال الوارد في الأذهان؛ ولذا حين تحدث رحمه الله عن بعض مسائل الصفات قال: «فكلام أئمة السنة والجماعة كثير في هذا الباب، متفق غير مختلف، وكله صواب، ولكن قد يبين بعضهم في بعض الأوقات ما لا يبينه غيره لحاجته في ذلك».

وقال -رحمه الله- مثنياً على كلام السلف، وموافقته النصوص: «ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظراً، وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول، وصريح المعقول، وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتناقض؛ والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول، فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب».

3 - تقرير العقيدة بأسلوب ميسر، وعبارات واضحة، مدعماً ما يقول بما يتيسر من آيات الكتاب العزيز، والسنة النبوية المطهّرة، ثم بعض أقوال السلف في فهمهم لنصوص الوحيين لهذه المسألة المطروحة.

ويحسن التنبيه إلى أن كتب الاعتقاد التي ألفها تنقسم ثلاثة أقسام:

أ - كتب تعنى بعرض اعتقاد السلف من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة دون ذكر للشُبه، مثل «العقيدة الواسطية».

ب - وكتب تعنى بالرد على شبه المخالفين، ومناقشتها، سواء كان المخالفون من الملل الأخرى كالنصارى في رده عليهم في (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، أم كانوا من المنتسبين إلى الإسلام من الفرق الإسلامية ككتابه (بيان تلبيس الجهمية) وكتابه (درء تعارض العقل والنقل) وغيرهما.

جـ - وكتب تجمع بين العرض والرد، فيذكر مسائل الاعتقاد، وأقوال السلف فيها، ثم يذكر الشبه ومناقشتها من كلام السلف وتعليقه عليها (الحموية)، وعلى سبيل المثال مما قرّره ابن تيمية -رحمه الله- في الاعتقاد بوضوح قوله في (العقيدة الواسطية): «هذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة - أهل السنة والجماعة - وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.

ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد [، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11) ... وهو سبحانه قد جمع فيما وصفه وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين».

وقال رحمه الله: «ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي [ مما يكون بعد الموت فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر وبنعيمه... إلى أن تقوم القيامة الكبرى، فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين... وتنصب الموازين، فتوزن فيها أعمال العباد: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (المؤمنون: 102، 103) ، وتنشر الدواوين - وهي صحائف الأعمال - فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره... وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب، والثواب والعقاب، والجنة والنار، وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء...».

وقال عن الإيمان: «ومن أصول أهل السنة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية...».

وعن الصحابة قال رحمه الله: «ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله [، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: 10) ... ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم».

وهذا العرض لاعتقاد السلف كله واضح ميسر، لم يتعمد الغريب من الكلمات، أو الإيغال في المصطلحات الكلامية وغيرها، بل قرر ذلك كله بعبارات واضحة، وجمل موجزة.

4 - شمولية عرض العقيدة وتقريرها في كتبه رحمه الله؛ وذلك لربطه بعض القضايا ببعض، ولكثرة إنتاجه العقدي، فلا تكاد تجد مسألة من مسائل الاعتقاد إلا وله رحمه الله إسهام واضح فيها، بدءاً بأركان الإيمان الستة على وجه التفصيل، وتقرير أنواع التوحيد الثلاثة والاستدلال لها، إضافة إلى المسائل المتعلقة بالاعتقاد مثل: الاعتقاد الحق في صحابة رسول الله [، وكرامات الأولياء، واعتقاد أهل السنة والجماعة في ولاة الأمور، ووجوب طاعتهم، وتحريم الخروج عليهم، إلى غير ذلك من مسائل الاعتقاد التي بثها رحمه الله في تضاعيف كتبه، ويكفي في معرفة ذلك النظر في الأجزاء الأولى من (مجموع فتاواه) فهي دواوين كبيرة لشرح معتقد السلف والاستدلال له.

وقد كان تركيزه رحمه الله على توحيد الألوهية كبيراً؛ ذلك أنه أصل دعوة الرسل، وسبب إنزال الكتب، فبيّن رحمه الله أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد اعتنى بتقرير هذا التوحيد، وحماية جنابه ، ويظهر اهتمام ابن تيمية رحمه الله وحرصه على توحيد الألوهية ما ألفه في هذا الجانب، فقد بلغت مؤلفات عدة كلها في تقرير هذا التوحيد وبيانه، والدفاع عنه، فضلاً عن استطراداته عن توحيد الألوهية في كتبه الأخرى، ورسائله الصغيرة التي تعنى بتقرير هذا التوحيد.

5 - حين يقرر معتقد السلف يركز على منهج الوسطية عند أهل السنة والجماعة؛ وذلك لقول الحق - تبارك وتعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: 143)، وهذا منهج كامل في أمور الاعتقاد كلها، بل في جميع الأمور، كما قال رحمه الله عن أهل السنة والجماعة: «هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم، فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة .

وهم وسط في باب أفعال الله تعالى: بين القدرية ، والجبرية .

وفي باب وعيد الله: بين المرجئة، والوعيدية من القدرية وغيرهم.

وفي باب أسماء الإيمان والدين: بين الحرورية، والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية.

وفي أصحاب رسول الله [: بين الروافض، والخوارج.

وأهل السنة والجماعة وسط في باب محبة الأنبياء بين من يغلو في حبهم، ويعظمهم كتعظيم الله، ويرى أن لهم تصرفاً ببعض أمور الكون، وبين من يفرّط في حقهم، ويغمطهم، ويرى أن بعض الناس أفضل منهم، وهذا موجود في طوائف من الصوفية.

6 - التسليم للغيبيات، وتفويض كيفياتها إلى الله عزّ وجل: وهذا موافق للكتاب والسنة، ولما عليه سلف الأمة، فقد جعل الله من صفات المتقين قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (البقرة: 3)، ومن تمام إيمانهم بالغيب أنهم يفوضون ما لا يعلمونه مما لم يرد به النص إلى عالمه وخالقه.

وقد قال عزّ وجل في تمام التسليم للأوامر الشرعية، ولو لم تظهر لنا حكمتها: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65).

وقال الإمام الشافعي -رحمه الله-: «آمنت بما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله [».

ويقرر ابن تيمية -رحمه الله- مسلك التسليم، وتفويض الكيفيات في الغيبيات سواء كانت من الصفات، أم من أمور الآخرة مما لم يرد نص في تحديد كيفياتها، وهذا هو حال المؤمنين، يقول -رحمه الله-: «كل ما فعله علمنا أن له فيه حكمة، وهذا يكفينا من حيث الجملة، وإن لم نعرف التفصيل، وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته... وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته».

وقال - أيضاً - في (التدمرية): «القاعدة الثانية: إن ما أخبر به الرسول عن ربه عزّ وجل فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه، أو لم نعرف؛ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه».

وأما منهجه في الاستدلال على اعتقاد السلف: فمما ينبغي التنويه إليه قبل ذكر المنهج أن أبين أن مصادر التلقي في الاعتقاد عنده هي الكتاب والسنة، فالعقيدة توقيفية يعتمد فيها على الوحي والنقل لا على الأهواء والعقول، وذلك كما قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59).

وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (الحجرات:1).

وقال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، إلى غيرها من الآيات.

يقول: «أصل جامع في الاعتصام بكتاب الله ووجوب اتباعه وبيان الاهتداء به في كل ما يحتاج إليه الناس من دينهم، وأن النجاة والسعادة في اتباعه، والشقاء في مخالفته»، وقال عن الأصل الثاني: «فصل في أن رسول الله [ بيّن جميع الدين أصوله وفروعه، باطنه وظاهره، علمه وعمله، فإن هذا الأصل هو أصل أصول العلم والإيمان».

 

ولأجل معرفة معالم منهجه في الاستدلال للعقيدة يحسن ذكر النقاط الآتية:

1 - وجوب رد التنازع إلى الكتاب والسنة، والإذعان لهما، والسمع والطاعة لأمرهما، واجتناب نهيهما، كما قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59).

وقد بيّن وجوب رد التنازع إلى الله ورسوله، وأن من لم يتحاكم إليهما فهو دليل على ضلاله ونفاقه، وأن الأمة لا تجتمع إلا على هذين المصدرين، وأنه يلزم لمن لم يتحاكم إليهما ألا يكونا هدى للناس، ولازم ذلك أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم منها.

2 - نفي التعارض بين نصوص الكتاب ونصوص السنة: فهما وحي من الله عزّ وجل كما قال سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4)، وقال عزّ وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} (الزمر: 23)، وقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82)، وبين ابن تيمية رحمه الله أن كلام الله متشابه متماثل، يصدق بعضه بعضاً، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه.

وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بثبوت نقيض ذلك، وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته بل ينفيه، أو ينفي لوازمه .

وقد بيّن أن النصوص لا تتعارض في الأمر نفسه، إلا في الأمر والنهي إذا كان أحدهما ناسخاً، والآخر منسوخاً، وأما الأخبار فلا يجوز تعارضها.

وأما إذا تعارض عند أحد خبران أو أمران أحدهما عام والآخر خاص، وقُدّم الخاص على العام، فإنه يعلم أن ذلك ليس بتعارض في الحقيقة.

وإذا كان في كلام الله ورسوله كلام مجمل أو ظاهر قد فُسر معناه أو بينه كلام آخر متصل به، أو منفصل عنه، لم يكن في هذا خروج عن كلام الله ورسوله، ولا عيب في ذلك ولا نقص.

3 - نفي التعارض بين نصوص الشرع وبين العقل: وهذا الموضوع قد أسهب في بيانه ابن تيمية رحمه الله عرضاً ورداً، بل يمكن القول: إن أكثر مناقشاته للمتكلمين كانت في بيان هذه المنهجية الفاصلة بين أهل السنة وبين مخالفيهم، وقد أوضح رحمه الله أن معارضة القرآن بمعقول أو قياس ليست من فعل السلف. ولم يكونوا يستحلونها، وإنما ابتدع ذلك لما ظهرت الجهمية والمعتزلة ونحوهما.

ويحيل وجود تعارض بين النص الصحيح، والعقل الصريح؛ لأن هذا لا يمكن، فالنص الصحيح موافق للعقل الصريح، وكذلك العكس، يقول رحمه الله: «وهذه حال المؤمنين للرسول، الذين علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به، يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح لا عقلي ولا سمعي»، وقد فصّل هذا الموضوع في (درء تعارض العقل والنقل)، و(بيان تلبيس الجهمية)، وكثير من كتبه الأخرى.

4 - الأخذ في أبواب الاعتقاد بظواهر النصوص، والمراد بالظاهر هو: ما يتعرف إليه الذهن من المعاني على معناها الظاهر، وأنه ليس لها معنى باطن يخالف ظاهرها، وقد نبّه شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن بعض النفاة يستخدمون الألفاظ المعروفة في غير معانيها، فيصرفونها عن حقيقتها، ومن هذه الألفاظ لفظ. (الظاهر) فيجعلون ظواهر النصوص غير مرادة؛ لأنها تقتضي - بزعمهم - التجسيم والتشبيه، وبيّن خطأهم في اللفظ والمعنى .

قال: «ومن قال: إن ظاهر شيء من أسمائه وصفاته غير مراد فقد أخطأ؛ لأنه ما من اسم يسمى الله تعالى به إلا والظاهر الذي يستحقه المخلوق غير مراد به، فكأن قول هذا القائل يقتضي أن يكون جميع أسمائه وصفاته قد أريد بها ما يخالف ظاهرها، ولا يخفى ما في هذا الكلام من الفساد».

وعلى هذا فإن الواجب هو الأخذ بظواهر النصوص في باب الاعتقاد، واعتقاد أنها هي المرادة؛ لأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا - سبحانه - باللسان العربي المبين: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 193 - 195)، فوجب قبوله على ظاهره، وأن المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن هو المراد .

ويتبع القول بالأخذ بظواهر النصوص: النهي عن التأويل المحدث عند المتأخرين الذي يصرفون فيه حقائق النصوص إلى غيرها؛ هروباً من الأخذ بظواهر النصوص إلى صرفها عن ظاهرها لمعنى آخر بدون قرينة تدل عليه، ففي نصوص الصفات أوّل المتكلمون هذه النصوص؛ خشية التشبيه بالمخلوقات، فوقعوا في تشبيه أشد منه وهو التشبيه بالمعدومات أو الممتنعات، يقول رحمه الله: «أما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه فهذا لم يكن هو المراد بلفظ التأويل في كلام السلف، وكان السلف ينكرون التأويلات التي تخرج الكلام عن مراد الله ورسوله، التي هي من نوع تحريف الكلم عن مواضعه، فكانوا ينكرون التأويل الباطل الذي هو التفسير الباطل».

5 - الأخذ بأحاديث الآحاد في باب الاعتقاد: خبر الواحد يفيد العلم عند أهل السنة والجماعة إذا صحّ عن رسول الله [، ويتلقى بالقبول، ويعمل به بدون تفريق بين العقائد وبين الأحكام التشريعية الفقهية، ومن الأدلة على قبول خبر الواحد، قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122)، وحين أراد النبي [ أن يرسل إلى اليمن من يدعوهم إلى الإسلام أرسل إليهم معاذ بن جبل ، وقال: «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله..»، وبه قامت الحجة على أهل اليمن وهو واحد .

وبيّن ابن تيمية -رحمه الله- مواقف بعض العلماء من الاستدلال بالسنة المتواترة وغيرها، ثم يرجح أحدها فيقول: «وأئمة أهل السنة والحديث - من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم - يثبتون الصفات الخبرية، لكن منهم من يقول: لا نثبت إلا ما في القرآن والسنة المتواترة، وما لم يقم دليل قاطع على إثباته نفيناه، كما يقوله ابن عقيل  وغيره أحياناً (على اختلاف في قوله)، ومنهم من يقول: بل نثبتها بأخبار الآحاد المتلقاة بالقبول، ومنهم من يقول: نثبتها بالأخبار الصحيحة مطلقاً، ومنهم من يقول: يعطى كل دليل حقه، فما كان قاطعاً في الإثبات قطعنا بموجبه، وما كان راجحاً - لا قطعاً - قلنا بموجبه، فلا نقطع في النفي والإثبات إلا بدليل يوجب القطع، وإذا قام دليل يرجح أحد الجانبين بيّنا رجحان أحد الجانبين، وهذا أصح الطرق».

وقال: «مذهب أصحابنا أن الأخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات».

وبهذا يتضح أنّه رحمه الله تعالى يوافق منهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد، وفي الاستدلال عليها، وأنه أحد علماء هذا المنهج، وأحد شُرّاحه على وفق ما أراده الله ورسوله .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك