رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: رضا عبد الودود 14 أغسطس، 2010 0 تعليق

ما وراء تحكيم أبيي!

 

 

الترحيب الشمالي والجنوبي  بقرار المحكمة الدولية بلاهاي بشأن النزاع حول إقليم أبيي ما زال مثارا للتساؤلات بين الأوساط السياسية المتابعة للشأن السوداني، ولعل ترحيب الجنوبيين بالقرار كان مستغربا، وتكمن تفسيرات عدة حوله، أولها: أن رفض القرار يعني العودة للحرب، كما أن قرب موعد استفتاء يناير 2012 الذي قد يقرر انفصال الجنوب حال دون اعتراض الجنوبيين الذين يخشون تبدل المعادلة السياسية والعودة إلى المربع الأول في اتفاقهم مع حكومة السودان.

 

قرار لاهاي

في نهاية يوليو الماضي أقرت المحكمة الدولية مشروعيةَ اعتراضات الحكومة السودانية على الحدود الشمالية لمنطقة أبيي، وقضت بإدخال حقول النفط الغنية في هذه المنطقة الخاصة إلى حدود الأقاليم الشمالية السودانية، وكذلك إخراج المنطقة من حدود دارفور وكردفان من حدود أبيي وضمها إلى الشمال، بمجمل يتراوح ما بين 10 و12 ألف كيلومتر مربع من 16 ألفًا هي مساحة أبيي، بينما تبقت للمنطقة التابعة للجنوب حوالي 4 آلاف كيلومتر مربع.

وبموجب الحكم، فإنَّ المساحة المتبقية، سيكون الرأي الفصل في تبعيتها لشمال السودان أو جنوبه لسكانها من قبائل المسيرية والدينكا في الاستفتاء المقرر إجراؤه في يناير من العام 2012م، بموجب اتفاق سلام الجنوب الموقع بين الجانبَيْن في مدينة (نيفاشا) الكينية في التاسع من يناير من العام 2005م، والبروتوكول الموقع بين الحكومة والحركة في نيفاشا أيضًا في السادس والعشرين من مايو من العام 2004م.

 

أبيي بين الديموغرافيا والسياسة

أبيي منطقة تداخل بين القبائل الإفريقية والعربية، تقع جنوب منطقة كردفان في السودان ويعيش فيها مزيج من القبائل الأفريقية مثل الدينكا، والعربية مثل المسيرية والرزيقات، ويتبع مثلث أبيي إداريا ولاية جنوب كردفان، لكنه يمتد جغرافيا إلى داخل ولاية بحر الغزال في الجنوب، وسمي مثلث أبيي لأن المنطقة أشبه بمثلث تحده ثلاث ولايات: من الشرق ولاية الوحدة، وجنوبا ولاية شمال بحر الغزال، وغربا ولاية جنوب دارفور.

وتقع هذه المنطقة تحديدا في الجزء الجنوبي الغربي من ولاية كردفان وفيها ثلثا حقول النفط في السودان، التي تبدأ شرقا بحقلي شارف وأبو جابرة منتهية بحقول هجليج وبليلة.

 

إرضاء الطرفين

وقد وصف الكثير من المراقبين السياسيين القرار بأنه إرضاء للطرفين، فأكد د.هاني رسلان الخبير الإستراتيجي ورئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية أن القرار قدم حلولا مرضية للطرفين لأهم مشكلة كانت تعوق تطبيق اتفاقية نيفاشا، وكانت تمثل أزمة متفجرة بين الشمال والجنوب. كان من الممكن أن تؤدي في مرحلة من المراحل إلى عودة الحرب الأهلية بين الطرفين مجددا، ولكن اتفاق الطرفين في نهاية المطاف على اللجوء إلى التحكيم والقبول المسبق بأي قرار يصدر عن هيئة التحكيم كان خيارا واعيا، وكان يحاول بكل السبل تحاشي العودة إلى الحرب التي ستكون خسارة للجميع. فالاتفاق أو المحكمة كانت مخولة أو مطلوبا منها النظر في سؤالين: هل تجاوز الخبراء الصلاحيات؟ وإذا كانوا قد تجاوزوها فما هي الحدود؟ من الواضح أيضا أن المحكمة قالت: بأن هناك تجاوزا في ثلاث جهات من الشمال والشرق والغرب، وبالتالي قدمت حدودا جديدة وقبلها الطرفان، وأكدت على حقوق قبيلة المسيرية بالأساس في الرعي والتنقل؛ باعتبار أن هذا الرعي والانتقال هو عماد حياة هذه القبيلة عبر عقود وقرون طويلة من الزمن.

 

أصل المشكلة

يؤكد خبراء الأنثروبولجي أن التنظيم القبلي بمنطقة أبيي هو أساس الأزمة؛ فهناك عدد كبير من أبناء المنطقة قيادات في الحركة الشعبية، بل إن زعيم الحركة السابق جون قرنق هو من أبناء قبيلة الدينكا، التي تعدُّ من أهم قبائل أبيي وجنوب السودان.

وفي الجانب الآخر، فإنَّ القبائل العربية الموجودة في أبيي مثل المسيرية والرزيقات، تعدّ حليفًا إستراتيجيًّا للحكومة في الخرطوم منذ الاستقلال، وطيلة عقود التمرد الجنوبي وقفت تلك القبائل بوصفها حائط صدٍّ قويٍّ في وجه حركات التمرد الجنوبية المسلحة؛ ولذلك فإنَّ هناك عددًا كبيرًا من الرتب العالية في الجيش الوطني السوداني ينتمون إلى هذه القبائل.

 

صناعة استعمارية

أبيي تقطنها قبيلتان، إحداهما تتبع الجنوب وأخرى تتبع الشمال، وبموجب اتفاق مايو 2004م، واتفاق سلام الجنوب تم ترتيب الوضع القائم حاليًّا في أبيي؛ حيث تم اعتبار أبيي "جسرًا بين الشمال والجنوب، وتربط شعب السودان"، وتم النص على أنَّ الإقليم يشمل تسع مشيخات من قبيلة الدينكا أنقوك تم تحويلها من بحر الغزال إلى كردفان في العام 1905م، مع احتفاظ قبيلة المسيرية العربية والجماعات الرعوية الأخرى بحقوقها التقليدية في الرعي والتحرك عبر أراضي أبيي.

وخلال الفترة الانتقالية منحت أبيي وضعًا إداريًّا خاصًا؛ بحيث يصبح المقيمون في أبيي مواطنين في كلٍّ من غرب كردفان وبحر الغزال، ويكون لهم ممثلون في المجالس التشريعية في الولايتَيْن، بينما يدير أبيي مجلسٌ تنفيذيٌّ محليٌّ انتخبه المقيمون فيها.

كما تمَّ الاتفاق على توزيع صافي عائدات بترول أبيي في الفترة الانتقالية على ست حصص تحصل فيها الحكومة القومية على 50%، وحكومة جنوب السودان على 42%، ومنطقة بحر الغزال على 2%، وغرب كردفان على 2%، والجهات المحلية في الدينكا على 2%، والجهات المحلية في المسيرية على 2%، بينما تم النص على ضرورة مساعدة الحكومة المركزية في الخرطوم لأبيي على تحسين الظروف المعيشية لسكانها "بما في ذلك رعاية مشاريع تنموية وحضرية".

كما تمَّ نشر مراقبين دوليين في أبيي لضمان التنفيذ الكامل لهذه الاتفاقات، إلى حين إجراء استفتاءٍ منفصلٍ بالتزامن مع استفتاء جنوب السودان في العام 2011م، ويضمن الاستفتاء لسكان أبيي الخيارات التالية -بصرف النظر عن نتيجة استفتاء جنوب السودان-: إمَّا الاحتفاظ بوضعٍ إداريٍّ خاصٍّ في الشمال، أو أنْ تكون أبيي جزءًا من بحر الغزال، وبالتالي تابعةً للجنوب وتلاحقه في مصيره إما الوحدة أو الانفصال, ولكن في كل الأحوال لن يتم انتهاك حدود الأول من يناير من العام 1956م، التي تم ترسيمها بين الشمال والجنوب السودانيَّيْن.

وبصفة عامة فإن جنوب السودان منذ البداية مشكلةٌ استعماريةٌ خلقها الاستعمار البريطاني، فبعد قيام الحكم الثنائي (المصري- البريطاني) في السودان عام 1899م، قامت سياسة حكومة الخرطوم التي كان يسيطر عليها الجانب الإنجليزي، تجاه جنوب السودان على 3 ركائز:

 الأولى: هي إضعاف الوجود العربي الإسلامي في الجنوب بدعوى أن ذلك قد يؤدي إلى التسبُّب في اضطرابات، بزعم أن الصورة الذهنية للشماليين لدى الجنوبيين لا تعني سوى تجارة الرقيق.

أما الثانية: فقد قامت على أساس إضعاف الثقافة العربية ولغتها، بإحلال الإنجليزية محل العربية بوصفها لغةً عامةً، أو بتشجيع انتشار اللهجات المحلية في الجنوب، وتحويلها إلى لغاتٍ مكتوبةٍ.

ما وراء أبيي

يمكن القول: إن قرار محكمة العدل الدولية بشأن أبيي تتبَّع المعايير القانونية في تعيين الحدود، وجاء بصيغة التراضي، ورغم التهدئة التي تلَت الإعلان عن القرار، إلا أن عمق الخلاف بين القوى السياسية يتجاوز مسألة أبيي بكثير.

لقد اتبع القرار الأدلة القانونية الثابتة، واعترف بحدود يناير 1956 بين شمال السودان وجنوبه، ولكنه فيما يتعلق بالحدود الشرقية والغربية لأبيي رأى أنها تحتاج إلى إعادة ترسيم، ووفقًا للمشاهدات والأدلة التاريخية لم يكن بمقدور المحكمة إصدار قرار يضع المنطقة بكاملها في نطاق الجنوب أو الشمال؛ ولذلك نجدها وجَّهت اللوم للجنة تعيين حدود أبيي؛ بسبب تجاوزها أوضاعًا قانونيةً وسياسيةً قائمةً، وهو ما عدته تجاوزًا لاختصاصات اللجنة.

ورغم ترحيب كلِّ الأطراف السودانية بهذا القرار ظهرت خلافاتٌ كبيرةٌ فيما بينها، وهو ما يعني أن مسألة أبيي رغم ما تمثِّله من أهمية سياسية وإستراتيجية لكلٍّ من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وحزب الأمة؛ فإنها لا تلغي أهمية الملفات الأخرى.

فبعد صدور القرار بيومين نشب خلاف بين الحركة الشعبية والحكومة الاتحادية حول آبار للنفط خارج منطقة أبيي، هذا الخلاف لا يرجع إلى النزاع على الحدود الإدارية، ولكنه يرجع إلى تطبيق مفهوم قسمة الثروة، فالحركة ترى أن من حقّها إدارة هذه الحقول وفقًا لبروتوكول قسمة الثروة الموقَّع بين الطرفين في إطار اتفاقية السلام الشامل.

وتمثل نتائج التعداد السكاني وتقسيم الدوائر الانتخابية المشكلةَ الأكثرَ أهميةً في هذه المرحلة؛ إذ يواجه المؤتمر الوطني معارضةً شديدةً من كافة الأحزاب والحركات السياسية؛ حيث ترى أن التعداد السكاني لا يعكس الواقع الاقتصادي والسكاني لمناطق السودان على اختلافها، وتبرز المعارضة بشكل خاص من جانب الحركة الشعبية وحركة العدل والمساواة، ويؤثر ذلك الخلاف في الانتخابات التشريعية والرئاسية، وهو ما قد يؤدي إلى تأجيلها مرةً أخرى، ولاسيما في ظل الاحتقان بين المؤتمر الوطني من جهة والأحزاب والحركات من جهة أخرى؛ بسبب الخلاف حول تمتُّع الحكومة الاتحادية بالمشروعية القانونية.

ولعل المشكلة الأكثر أهميةً في موضوع الانتخابات هي التي تتعلق بقدرة الحكومة على إجراء الانتخابات على مستوى السودان؛ فالملاحظ في هذا الشأن هو أن عقد الانتخابات في دارفور سوف يواجه صعوباتٍ في ظل رفض «العدل والمساواة» لإجراء الانتخابات قبل التوصل إلى اتفاق سلام مع المؤتمر الوطني، ومما يزيد الأمر تعقيدًا هو أن الولايات المتحدة بدأت تشير إلى استثناء دارفور من إجراء الانتخابات القادمة، وهو ما يتماثل مع ما حدث في الجنوب على مدى سنوات الحرب الأهلية منذ خمسينيات القرن الماضي، وقد يترتَّب عليه وضعٌ جديدٌ للأزمة السياسية في غرب السودان.

وفي النهاية، لعل الجانب الإيجابي في قرار تحكيم أبيي هو أنه خفَّف من وطأة الأزمة السياسية في السودان، بشكل يعطي فرصةً لتهدئة الملفات الأخرى، وهذا ما يحتاج إلى جهود كبيرة لا تتوافر في الوقت الحالي للأطراف السودانية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك