رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 12 ديسمبر، 2023 0 تعليق

لمحة عن تاريخها ودورها الحضاري – الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس وعموم فلسطين

  • تنوّعت الأوقاف المقدسيّة تنوّعًا كبيرًا حتى شملت كلّ وجوه الوقف الخيريّ الممكنةِ وتنوعت على مستوى الواقفين فشملت العامّة والعلماء والخلفاء والأمراء والسّلاطين وقادة العسكر ورجال السياسة
  • الأمّة الإسلاميّة أمّة علمٍ وقراءة وعنايتها بالتعليم من أعظم مميّزاتها على الأمم الأخرى ولم تعانِ من عصور ظلامٍ ولا حِقَبِ تخلّف منذ أنْ أُخرجت للنّاس
 

لقد كانت فلسطين منذ فتحها الإسلاميّ محطًّا لأنظار المسلمين، ومحلًّا يتحرّونه لأعمالهم الصالحة، وقد جاءت خصوصيّتها الشرعيّة من ثلاثة وجوه:

  • الأوّل: وجود المسجد الأقصى المبارك فيها، وهو قبلةُ المسلمين الأولى، وثالث المساجد المعظّمة عند عموم المسلمين، قال -عليه الصلاة والسلام-: «... ولا تشد الرحال، إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام، ومسجد الأقصى ومسجدي».
  • الثاني: دخولُها في عموم مسمّى بلاد الشام، فدخلت بذلك ضمنًا في كلّ النّصوص التي وردت في فضل الشام، وهي نصوص كثيرة مشهورة.
  • الثالث: أنّها ثغرٌ، حظيت باهتمام كثير من أهل العلم والذين فتح الله لهم في عبادة الجهاد في سبيل الله، فاختاروها دار إقامة ومقرّ رباط، وقد رُوي في الحديث: «... وإنّ أفضل جهادِكم الرِّباطُ، وإنّ أفضلَ رباطِكم عسقلان».
هذه الخصوصيّة الشرعيّة لفلسطين، ولا سيما الأولى منها، وهي اشتمالُ الجغرافيا الفلسطينيّة على مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، جعلها أيضًا مقصودةً بالكثير من الأعمال الصالحة التي تحتملُ تحرّي الفضل المكانيّ، ومن أهمّها: الأوقاف الخيريّة.

تنوّع الأوقاف المقدسيّة

         لقد تنوّعت الأوقاف المقدسيّة تنوّعًا كبيرًا جدًّا حتى شملت كلّ وجوه الوقف الخيريّ الممكنةِ تقريباً، كما تنوّعت تنوّعاً كبيراً جدًّا أيضاً على مستوى الواقفين، من العامّة والعلماء والخلفاء والأمراء والسّلاطين، وقادة العسكر ورجال السياسة.

أول وقف في بيت المقدس

      أول بقعة وقفية في مدينة القدس وفلسطين هي البقعة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- مكاناً للمسجد الأقصى، وتعد ثاني بقعة وقفية في الأرض بعد المسجد الحرام، فالمسجد الأقصى قدسيته قديمة ؛ فهـو ثـاني المساجد وضعاً في الأرض بعد المسجد الحـرام، فعن أبي ذر -رضي الله عنه - قال : قلت يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أولاً ؟ قال : المسجد الحرام. قال : قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى، قلت : كم كان بينهما؟ قال أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصله؛ فإن الفضل فيه «.

أوّل الأوقاف المقدسيّة في الإسلام

          لم نقف على نصّ مؤكّد حول أوّل وقفٍ أوقفه المسلمون في مدينة القدس، لكن من أقدم ما تمّ رصدُه، وقْف أمير المؤمنين عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - لـ (عين سلوان) على فقراء البلد وضَعَفَتِه، وهي عينٌ قديمةٌ تعلّقت بها رواياتٌ تلموديّةٌ وإنجيليّةٌ، وصفها الرّحّالةُ والمؤرّخون، -كما نقلوا ما كان يُحكى عنها- من أنّ المسيحَ -عليه السلام- كان يُبرِئُ الأكمه من مائِهَا إلى غير ذلك ممّا لا سبيل إلى ثبوته، والله أعلم.

جهات الوقف المقدسي

           يمكنُ أن نقسّم الدّور التنمويّ للأوقاف المقدسيّة على أساس تغطيتها لخمسةِ نواحٍ مهمّة في الحياة الاجتماعيّة، والمقصودُ بالتقسيمِ هو استحداثُ اصطلاحٍ ييسّر تصوّر المشهد التاريخيّ فقط، فهو تقسيمٌ باعتبار المقصد الأصليّ للواقف؛ لأنّه كثيراً ما تتعدّد وجوه الوقف الواحد، فيكون على أكثر من جهة، أو يكون على جهةٍ أصليّةٍ ثمّ ينصّ الواقف على أنَّ الفائض من ريعِه يكون إلى جهةٍ أخرى، وهذه النّواحي هي:

الأولى: الأوقاف على التعليم

       الأمّة الإسلاميّة أمّة علمٍ وقراءة، وعنايتها بالتعليم من أعظم مميّزاتها على الأمم الأخرى، فهي أمّةٌ انطلقت وتأسست بـ (اقرأ)، ولم تعانِ من عصور ظلامٍ ولا حِقَبِ تخلّف منذ أنْ أُخرجت للنّاس، كما تتميّز بأنّ كلّ علومها وعطائِها الحضاريّ على مستوى المعارف المتنوّعة، ظهرت ونبتت وترعرعت في ظلال العلوم الشرعيّة، ولأجل خدمتها وتنميتها وتوسيع آفاقها البحثيّة. فبمصاحبةِ العلومِ الشرعيّة، ازدهرت علوم اللّغة كلّها، كما ازدهر الطّبّ والفلك والفيزياء والرياضيّات وعلوم الطّبيعة؛ لذلك ظلّ الاهتمام الأساسيّ بالعلوم الشرعيّة بوصفها أمّ العلوم وأساسها الأوّل بالنسبة إلى المسلمين، الذين لم تحجزهم هذه الحقيقة عن الانتفاع بتجارب الأمم والاستفادة منها عن طريق المخالطة المباشرة والتلمذة، أو عن طريق الترجمةِ ونقل العلوم الطبيعيّة عن لغاتها الأصليّة. وقد كان لمدينة القدس نصيبٌ عظيمٌ من الأوقاف التعليميّة من مدارس وكتاتيب ومكتبات، متعدّدة الوجوه والخدمات، نستعرضُ ههنا نماذج منها:

أوّلاً: المدارس والكتاتيب

1- الكتاتيب. لا نملكُ الكثير من المعلومات عن كتاتيب مدينة القدس، نعني بذلك الكتاتيب المنفردة التي وُقفت لتكون كذلك، ونعني بالمنفردة: تلك الكتاتيب التي لم تكن ملحقةً بمدارس أو مكتبات، أو لم تكن ضمن أروقة المسجد الأقصى المبارك، والعادةُ أنَّ الذي تنصّ عليه المصادر هو اسم الكُتّاب الذي عادةً ما يكون على اسم الواقف أو اسمِ مؤدِّبِ الصّبيان فيه، وقد لا يُعرف الكثير عنها إلا من خلال الوقوف على نصّ الوقفيّة الخاصّة بكلّ منها، هذا على الرغم من بعض الإشارات التاريخيّة التي تشهدُ بوجودها وتكشفُ عن بعض أحوالها ولو على نحوٍ مجمل، كما يشهد بذلك الأرشيف العثمانيّ أيضاً، وقد أحصى أحد الباحثين عددًا منها. فمنها مكتبٌ أنشأه صلاح الدّين الأيوبي -رحمه الله-، ومنها آخر أنشأه الأمير سيف الدين منجك الناصري، من مماليك الملك الناصر قلاوون، وغالبُ الكتاتيب كانت ملحقةً بالمدارس، وسنذكر نماذج منها، وقد اعتيد في الكتاتيب أن يكون النصيب الأكبر فيها للأيتام، بل تكون مقصورةً عليهم في كثير من الأحيان، وليس غريباً أن يُجعل فيها نصيبٌ لأبناء عموم المسلمين، ولا سيما فقرائهم من غير الأيتام، ومن الكتاتيب المقدسيّة -فضلا عما ذكر:

مكتب بيرام

 جاويش بن مصطفى (947هـ)

        واقفه المشرف على بناء سور القدس في عهد السلطان سليمان القانوني، ومتولّي أمر أوقاف العمارة العامرة، وهي تكيّة زوجة السلطان سليمان القانوني بالقدس القديمة المعروفة بـ (تكيّة خاصكي سلطان)، وقد كان بناءً كبيراً مشتملاً على رباطٍ ومكتب، جاء تعيين مكانه بأنَّه عند تقاطع (طريق الواد) و(طريق النّاظر)، وقد وقف عليه واقفه أوقافاً كثيرةً من دُوْرٍ ودكاكين وقُرًى، وقد وُجدت له أوقافٌ في القدس وبيت لحم وغزّة وغيرها، أُعيدَ ترميمُ المكتب والرّباط عام (1055هـ) بعد أن كان تصدّع، وكانت فيه دار مخصّصة لسكن المؤدّب، وقد كان الرباط إلى جانب المكتب معروفاً، حتى نزل به الرحالة البكري الصّدّيقي مراراً، ورأى نظام التعليم فيه.

مكتب طورغود آغا بن محمود

        من القرن العاشر الهجري في الحقبة العثمانيّة أيضاً، وواقفه هو متولّي أوقاف (تكيّة خاصكي سلطان) في تلك الفترة، وقد وَقَفَه وجعل النّظر عليه لبعض العسكر العثمانيّين، وقد عُيّن فيه قارئٌ مُتقن، وكانت نفقاته من أوقافه الكثيرة.

مكتب محمد آغا الطّواشي

من الحقبةِ المملوكيّة في عهد السلطان قايتباي، وقفَ عليه واقفُه أوقافاً نقديّةً، وفرنَيْن في سوق الطبّاخين، ودار في حارة باب حطّة، وحاكورتين وقطعة أرض بالقدس.

مكتب شرف الدين أبو القاسم الهكّاري

        من أوقاف القرن السابع، في الحقبةِ المملوكيّة المبكّرة، في سلطنة ركن الدّين بيبرس البندقداري، وواقفُه من أهل العلم، وقد تشارك أبناؤه في إنشائِه، ووقفوا أوقافاً كثيرةً على مصالحه، وكان ملحقًا بدار حديث ويناله حظّ من أوقافها أيضاً، وقد بورك فيه، فاستمرّ يؤدّي عمله إلى القرن الثاني عشر الهجري، فقد احتفظت سجلّات المحكمة الشرعيّة بالقدس بأنَّ الشيخ محمد بن عبد الصمد العلمي قد تولّى رُبع وظيفة النّظر على وقف أولاد الهكّاري.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك