رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 19 ديسمبر، 2023 0 تعليق

لمحة عن تاريخها ودورها الحضاري – الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس وعموم فلسطين      (٢)

  • عمّرت المدارس فضاء المدينة المقدّسة في طولها وعرضها بدروس العلم ومجالس الذكر والوعظ وقد تنوّع واقفوها وتنوّعت أغراضها حتى وُجدت المدارس التي وقفها كبار السلاطين والأمراء والقادة
  • ظهرت المدارس في القدس الشريف مع بداية ظهور نظام المدارس في العالم الإسلاميّ فكانت في مدينة القدس وحدها مدارس تزيد على الأربعين
  جعل الإسلام الوقف في منزلة كبرى، بل جعله من أولويات المجتمع المسلم؛ فقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أول من أوقف في الإسلام أرضا على فقراء المسلمين، تلاه عثمان بن عفان الذي اشترى بئر (رومة)، وأوقفها على سقيا الناس، فأقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظام الوقف، وطبقه التطبيق العملي في بناء مسجد قباء بأموال المسلمين، كما قال جابر بن عبدالله: «لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذا مقدرة إلا وقف»، وقد تميزت مدينة القدس مثل غيرها من مدن العالم الإسلامي بكثرة الأوقاف فيها. ظهرت المدارس في القدس الشريف مع بداية ظهور نظام المدارس في العالم الإسلاميّ، فكانت في مدينة القدس وحدها مدارس تزيد على الأربعين، عمّرت فضاء المدينة المقدّسة في طولها وعرضها بدروس العلم ومجالس الذكر والوعظ، وقد تنوّع واقفوها وتنوّعت أغراضها، حتى وُجدت المدارس التي وقفها كبار السلاطين والأمراء والقادة، التي وقفها مَن دونهم من أهل الوجاهةِ والمال والمكانة السياسيّة وقادة العسكر، إلى مدارس أخرى وقفها العامّة رجالاً ونساءً، ونتناول هنا أمثلةً على كلّ ذلك.
  • أولاً: أوقافِ رجالِ الحكمِ والسّياسة على التعليم
من أمثلةِ أوقافِ رجالِ الحكمِ والسّياسة على التعليم ما يلي:

المدرسة الصلاحية

          يذكر المؤرّخون أنّ موضعها كان بيتًا يُنسب للسيدة (Sainte Anne)، يعني القدّيسة حنّة، ويوردها المؤرّخون باسم (صندحّنة)، وهي عند النّصارى والدة السيدة مريم عليها السلام، وكانوا قد بَنَوْا عليها كنيسة، ثمّ لمّا فُتحت المدينة الفتح الإسلاميّ الأوّل كانت قد خَرِبَت من قبل، ودارت عليها مصالح متنوّعة بعد ذلك، منها أنّها استُعملت لتدريسِ الفقه، وصارت فترةً مثل الزاوية أو الخَلْوَة، أقام فيها الفقيه الشافعي الكبير نصر بن إبراهيم المقدسي، وقد غادرها إلى صور سنة (471هـ)، ثمّ لمّا استولى الصّليبيّون على المدينة عام (492هـ) أعادوها كنيسةً. وقيل: إنَّ المكان نفسه كان قد استُعمل قبل الفقيه نصر بن إبراهيم المقدسي من قِبَل العُبيديّين لتدريسِ مذهبهم الرديء أيضاً. فلمّا جاء الفتح الصلاحي للمدينةِ عام (583هـ) للمدينةِ المقدّسة، استأمر الفقهاء واستشار من حوله فيما يفعله فيها، فاستقرّ رأيه على أن يجعلها وقفاً على الفقهاء الشافعيّة، وقد عُرفت عنه عنايته الفائقة بمذهب الشافعيّ -رحمه الله-، وكأنّ تلك الخطوة بوقفها أُريدَ لها أنْ تكون تأبيدًا لهويّتها الإسلاميّة بعد تقلّبها بين أيدٍ كثيرة، وعُرفت منذ ذلك الوقت بـ (الصلاحيّة). وقد ذكر العُليمي أنّه اشتراها أوّلاً من وكيل بيت المال من حرّ ماله، ثمّ وقَفَهَا على الوجه المذكور، رحمه الله وتقبّل منه، وجعل عليها أوقافاً كثيرة، وتقع المدرسة الصلاحيّة قُرب باب الأسباط كما أشار العُليمي، على مسافةٍ قريبةٍ جدًّا منه.

المدرسة التنكزية

           وقَفَها الأمير تَنْكَز بن عبدالله النّاصري، نائب السلطنة بدمشق في السلطنةِ الأخيرةِ للسّلطان النّاصر قلاوون، وقد كان وقفها كما يشير حجر التأريخِ على بابها سنة (729هـ)، وكانت المدرسة التنكزيّة منذ إنشائها مجمّعاً وقفيًّا كبيراً، يحتوي على مدرسةٍ بها أربعةُ أواوين، أحدها مسجد، وبها مطبخ لمن يرتَّب فيها من الفقهاء والدارسين، ومستحَمٌّ، والماء يجري إليها من قناةٍ رومانيّةٍ قديمةٍ تجري إلى القدس من منطقةِ (العرّوب)، كان الواقف قد جدّدها أيضاً، وبها رباط للنساء، ورباطٌ للصّوفيّة، ومكتبٌ للأيتام، ووقفَ عليها أوقافاً كثيرةً. درّس في التنكزيّة أعلامٌ كبار، على رأسهم صلاح الدّين العلائي، الإمام المعروف الذي سارت بمصنَّفاته الرّكبان، ومنهم أحمد بن محمد بن إبراهيم بن هلال، مصنّف (مثير الغرام بفضائل القدس والشام) وغيرهم، وقد استُخدمت المدرسة التنكزيّة في القرون المتأخّرةِ لعقد مجالس القضاء، ثمّ صارت مقرًّا للمحكمةِ الشرعيّة، ولاحقاً مقرًّا للمجلس الإسلاميّ الأعلى، وسكنَها مدّةً رئيسُه الحاجّ أمين الحسيني رحمه الله، إلى أنْ استولت عليها قوّات الاحتلال الصهيونيّ التي هدمت حارة المغاربة المجاورة لها، وحوّلت مبنى المدرسة إلى مركزِ توقيفٍ مؤقت للمرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى المبارك، وذلك منذ عام 1969م. وقد تشرّفت جمعيّة الدراسات الوقفيّة بإنجاز تحقيقٍ للنّصّ الكامل لحجّة وقفها، تضمّنت الكثير من تفاصيلها وأوصافها الدّقيقة والأوقاف التي وُقفت عليها، وقد طُبعت ضمن إصدارات الجمعيّة والحمد لله.
  • ثانيًا: أوقافِ النّساء على التعليم
من أمثلةِ أوقافِ النساء على التعليم ما يلي:

المدرسة العثمانية

         قال العُليمي: «بباب المتوضّأ، واقفتُها امرأةٌ من أكابر الرّوم اسمُها أصفهان شاه خاتون، وتدعى خانُم، وعليها أوقافٌ ببلاد الرّوم وغيرها في هذه البلاد، وعلى بابها تاريخها في سنة أربعين وثمانمائة (840هـ)، ودفنت الواقفة لها بالتّربة المجاورة لسور المسجد الأقصى الشريف -رحمها الله تعالى»، وكانت مدرسة ذات شأن كبير، تعاقب على مشيختها جماعة من أعيان الحنفيّة، وكانت تُعقد بعض مجالس القضاء والرقابة والتحقيق مع القُضاة أحيانًا. وقد كان من شرطِ هذه المدرسةِ أنْ يَلِيَ مشيختها أعلم أهل زمانِه، وقد نزلَ عنها أحد أجلّ علماء وقتِه من أجلِ هذا الشرط، تواضعاً منه وتصريحًا بأنّ الشرط لا ينطبق عليه، قال العليمي: «الشيخ الإمامُ العالمُ العاملُ الصّالحُ سراجُ الدّين، سراج بن مسافر بن زكريا ابن يحيى بن إسلام بن يوسف، الرّوميّ الحنفيّ، عالم الحنفيّة بالقدس الشّريف، وسراج هو نفسُ اسمِه، ويسمّى أيضًا: (عوض) و(ضِيَا)، ولم يشتهر إلا بالشيخ سراج بالرّوم وبهذه البلاد.

المدرسة الخاتونية

          قال العليمي عنها: «بباب الحديد، واقفتها أغل خاتون بنت شمس الدين محمد بن سيف الدين تمر القازانية البغدادية، وقفت عليها المزرعة المعروفة بظهر الجمل، واشتهرت في عصرنا وقبله بـ (باطن جمل)، وقيّدت تاريخ وقف الجهة المذكورة في خامس ربيع الآخر سنة 755 ه‍، ثم أكملت عمارة المدرسة المذكورة، ووقفت عليها المرحومة أصفهان شاه بنت الأمير قازان شاه، تاريخ وقفها في العشر الآخر من جمادى الآخرة سنة 782 ه»، وبناء هذه المدرسةِ ما زال موجودًا، وهي تتكوّن من طابقين، وصحن مكشوف، وإحدى خلاويها مطلّة على المسجد الأقصى المبارك، وقد قُبر في هذه الخلوةِ بعض أعيان القدس، منهم الشهيد المجاهد عبدالقادر الحسيني -رحمه الله.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك