رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: شريف طه 17 أغسطس، 2023 0 تعليق

قواعد وأصول مهمة  (2) خطورة تكفير أئمة الإسلا م

استكمالا لما بدأنا الحديث عنه من الظواهر الخطيرة التي تفشَّت مؤخَّرًا بين بعض الشباب: ظاهرة الطعنِ في كثير من الأئمة الذين اتُّفِقَ على مكانتهم وصدقهم وعدالتهم وعِلمهم وأمانتهم ورسوخ قدمهم، كالإمام أبي حنيفة والإمام النووي والحافظ ابن حجر وغيرهم من أئمة الإسلام والعلماء الأعلام رحمهم الله جميعًا، وقلنا: إنَّ هذه الفتنة كانت قد أطلَّت بقرنها منذ عقودٍ يسيرةٍ، وظهر من يجهَر بلا خوفٍ ولا حياءٍ بالطعن في هؤلاء الأئمّة الأعلام، بل ويكفِّر طائفةً منهم كالإمام النووي والحافظ ابن حجر، ويَدعُو لحرق كُتُبهما وتحريم النظر فيها؛ بدعوى أنهما من الأشاعرة، وأن الأشاعرة جهمية، وأن السلف متَّفقون على تكفير الجهميّة، ثم ذكرنا تصدَّى كبار العلماء لذلك، وتحذيرهم منها، واليوم نتكلم عن القواعد والأصول التي بينها العلماء في تناول هذه المسألة.

 
  • الأصل الأول: خطورة تكفير المسلمين
إن تكفير المسلم الذي ثبت له عقد الإسلام ورطة خطيرة، لا يجوز الإقدام عليها، إلا ببيِّنة أوضح من شمس النهار؛ فإنّ إثم التكفير عظيم، ففي الصحيحين عن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: ‌يَا ‌كَافِرُ، ‌فَقَدْ ‌بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا»، وأَن يخطئ المرء في ترك التكفير الذي هو محلّ اجتهاد وظنّ أهونُ بكثير من أن يخطِئ في تكفير المسلم. وإذا كان هذا في حقّ عامة المسلمين، فكيف بالعالم الذي عظَّمت الشريعة حقَّه وقدره؟! قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ‌لَمْ ‌يُجِلَّ ‌كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقّه».  

وجوب تعظيم العلماء وتوقيرهم

و       نصَّ العلماء في متون الاعتقاد التي تضمنت أصول أهل السنة المتَّفق عليها التي لا يشذّ عنها إلا أهل البدع والضلال على وجوب تعظيم العلماء وتوقيرهم، قال الطحاوى --رحمه الله- في عقيدته المشهورة-: «وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين (أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر) لا يُذْكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل».   قال ابن أبي العز في شرحه: «قال -تعالى-: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (النساء: 115)، فيجب على كل مسلم -بعد موالاة الله ورسوله- موالاةُ المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصًا الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يُهتدى بهم في ظلمات البر والبحر.   وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - علماؤها شرارها إلا المسلمين؛ فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمُحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقًا يقينًا على وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلابد له في تركه من عذر.  

الأعذار ثلاثة أصناف

وجماع الأعذار ثلاثة أصناف:
  • أحدها: عدم اعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله.
  • والثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
  • والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق، وتبليغ ما أُرْسل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم وأرضاهم».  
  • الأصل الثاني: منهجية التعامل مع الكلمات المنقولة عن السلف
بعضهم يتعامل مع بعض النقول عن السلف وكأنها نصوص من الوحي المعصوم، ويأبى توجيه أهل العلم لها، متوهِّمًا أن هذا هو التمسُّك بمنهجهم، والاحتجاج بكلام السلف إنما يكون فيما أجمعوا عليه، فإجماعهم حجَّة ملزمة، وأما كلام الواحد منهم فلا يكون ملزمًا ما لم يكن نقلا عن جماعتهم التي تقوم بها الحجّة، وعند الاختلاف بينهم فالمرجع للكتاب والسنة، كما قال -تعالى-: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59).  

كلامُ أئمة السلف ليس ككلام المعصوم صلى الله عليه وسلم

     ولا يصحّ أن يعامَل كلامُ أئمة السلف على أنه ككلام المعصوم، فيعامل كالنصوص الشرعية التي يستَدَلّ بكل لفظة فيها، ولها صفة الإطلاق في الزمان والمكان، فيحتجّ بعمومها ومطلقها، وإنما ينظر في سياقه، والظرف الذي ورد فيه، ويُحاكَم لقواعد العلم والترجيح المعروفة.  

تكفير الجهمية في زمانهم

     فمثلا: حينما يُنقل عن كثير من أئمة السلف أنهم كفروا الجهمية في زمانهم، فإن ذلك لا يُتعامل معه كأنه نصّ شرعي، بل ينظر في سبب هذا التكفير، وبيان من وصفهم العلماء بذلك، وبيان الزمن الذي قيل فيه هذا الكلام، وما خرج على سبيل الإلزام في الحجاج والمناظرة، وما هو على سبيل التقرير المجرد، وكذلك مراعاة التطبيق العملي للسلف مع من وصفوا بالجهمية من الولاة والقضاة والعوام، ونحو ذلك مما له تأثير في فهم هذا الكلام.   وينظر كذلك في فهم هذا الكلام في ضوء قواعد التكفير المتفق عليها، وقواعد تطبيق الحكم على الأعيان، وموانع الأهلية ونحو ذلك مما يجب النظر فيه من قواعد العلم، لا أن تفهم بمعزل عن ذلك.  

مثال آخر على ذلك

الكلام المنقول في ذم أبي حنيفة بل وتكفيره، فليس من الصواب التمسك بكلام بعضهم في ذمه واتهامه بالتجهم، وتكفيره بذلك، وترك ما تتابعت عليه الأمة واتفقت كلمتهم عليه من الاتفاق على فضله وجلالته وإمامته في الدين، ونفي ما نُسِب إليه من القول بالتجهم وخلق القرآن.   قَالَ أَبُو يُوسُف: «ناظرت ‌أَبَا ‌حنيفَة سِتَّة أشهر، فاتفق رَأينَا على أَن من قَالَ: الْقُرْآن مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر»، وروى الخطيب البغدادي أن الإمام أحمد قال: «لم يصح عندنا أَنَّ أَبَا حنيفة كَانَ يَقُولُ: القُرْآن مخلوق».  

هذا هو الظن بالإمام أبي حنيفة --رحمه الله-

      قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: «وهذا هو الظن بالإمام أبي حنيفة -رحمه الله- وعِلمِه، فإن صح عنه خلافه، فلعل ذلك كان قبل أن يناظره أبو يوسف، كما في الرواية الثابتة عنه في الكتاب، فلما ناظره -ولأمر ما استمر في مناظرته ستة أشهر- اتفق معه أخيرا على أن القرآن غير مخلوق، وأن من قال: (القرآن مخلوق) فهو كافر. وهذا في الواقع من الأدلة الكثيرة على فضل أبي حنيفة، فإنه لم تأخذه العزة، ولم يستكبر عن متابعة تلميذه أبي يوسف حين تبين له أن الحق معه، فرحمه الله -تعالى- ورضي عنه».   ولذلك قال العلامة المعلمي اليماني -رحمه الله-: «وكان مقتضى الحكمة اتباع ما مضى عليه أهلُ العلم منذ سبعمائة سنة تقريبًا من سدل الستار على تلك الأحوال وتقارض الثناء».  

هجر المبتدع

مثال آخر: ما ورد عن السلف في هجر المبتدع وعدم توقيره ونحو ذلك، فإن هذا حق لا ريب فيه، ولكن لا بد أن يفهم من خلال قواعد الشرع المختلفة.   فمن المعلوم أن هجر المبتدع مبني على مراعاة المصالح والمفاسد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد هجر الثلاثة الذين خلّفوا؛ لما رجا من حسن توبتهم بذلك، ولم يهجر المنافقين على خبثهم؛ لأنه لا مصلحة ترتجى من ذلك، بل ربما كان ذلك سببًا في زيادة فسادهم.   وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن إظهار العداوة لأهل البدع القائلين بخلق القرآن، أم يداريهم؟ فقال: أهل خراسان لا يَقْوَون بهم. يقول: كأن المداراة.   قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «فإذا لم يكن في هجرانه (الظالم والمبتدع) انزجار أحد ولا انتهاء أحد، بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها، لم تكن هجرة مأمورًا بها، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا ‌يقوون ‌بالجهمية… وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة، فلو تُرك روايةُ الحديث عنهم، لاندرس العلمُ والسنن والآثار المحفوظة فيهم... ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل.  

أجوبة الإمام أحمد -رحمه الله

       وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد عَلِمَ المسئولُ حالَه، أو خرج خطابًا لمعيَّن قد عَلِم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إنما يثبت حكمُها في نظيرها. فإن أقوامًا جعلوا ذلك عامًّا فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات».  

هذا من الغلو

       وهؤلاء الغلاة كلما وجدوا أحدًا من أهل العلم ترفَّق ببعض المبتدعة لمصلحة ترتجى من وراء ذلك اتهموه في دينهم، واتهموه بأنه يهدم الإسلام! ولا شك أن هذا من الغلو، وكلام أهل العلم في التفريق بين المداراة والمداهنة معروف، وأدلته من الشرع معروفة، وليس هذا موضع بسطها،وهذا في حقِّ أهل البدع والأهواء الصُّرحاء، فكيف بمن لم يكن منهم وإنما وقع في شيء من أقوالهم باجتهادٍ خطأ.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك