رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 27 نوفمبر، 2023 0 تعليق

في ضوء الكتاب والسنة الجهاد في الإسلام  – مفهومه وأحكامه وضوابطه (1)

 

  • الشيخ ابن عثيمين: لابد للجهاد من شرط وهو أن يكون عند المسلمين قدرة وقوة يستطيعون بها القتال فإن لم يكن لديهم قدرة فإن إقحام أنفسهم في القتال إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة ولهذا لم يوجب الله تعالى على المسلمين القتال وهم في مكة لأنهم عاجزون ضعفاء
  • لا يجوز لأحد من رعية الإمام أن يدعو الناس إلى الجهاد دون إذن الإمام؛ لما في ذلك من المفاسد، والأضرار، ومخالفة إمام المسلمين
  • شيخ الإسلام ابن تيمية: طاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد وطاعة ولاة الأمر واجبة لأمر الله بطاعتهم فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم فما له في الآخرة من خلاق
  • لا يجوز الخروج للجهاد إلا بإذن الوالدين بشرط أن يكونا مسلمين لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية فإن تعيّن الجهاد وكان فرض عين فلا إذن لأن الجهاد أصبح فرضًا على الجميع
  • الإمام ابن قدامة -رحمه الله تعالى- : «يشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية  والسلامة من الضرر ووجود النفقة»
 

باب الجهاد في سبيل الله وأحكامه، باب واسع يحتاج إلى عناية فائقة، ومعرفة مفهومه، وحكمه، ومراتبه، وأهدافه، وضوابطه، والحكمة من مشروعيته، وأنواعه، وشروط وجوب الجهاد، ووجوب استئذان الوالدين في الخروج إلى جهاد التطوع في سبيل الله -تعالى-، وأن أمر الجهاد موكول إلى الإمام المسلم، واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك ما لم يأمر بمعصية، ووجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ولا سيما في أيام الفتن، وفضل الجهاد في سبيل الله -تعالى-، وأسباب النصر على الأعداء.

أولاً: مفهوم الجهاد لغة وشرعًا

  • لغةً: بذل ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل.
  • شرعًا: بذل الجهد من المسلمين في قتال الكفار المعاندين المحاربين، والمرتدين، والبغاة ونحوهم؛ لإعلاء كلمة الله -تعالى.

ثانيًا: حكم الجهاد في سبيل الله

       الجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي من المسلمين، سقط الإثم عن الباقين، قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ الـْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى في فرضية الجهاد-: «لابد فيه من شرط، وهو أن يكون عند المسلمين قدرة وقوة يستطيعون بها القتال، فإن لم يكن لديهم قدرة، فإن إقحام أنفسهم في القتال إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة؛ ولهذا لم يوجب الله -تعالى- على المسلمين القتال وهم في مكة؛ لأنهم عاجزون ضعفاء، فلما هاجروا إلى المدينة، وكوَّنوا الدولة الإسلامية، وصار لهم شوكة أُمروا بالقتال، وعلى هذا فلابد من هذا الشرط، وإلا سقط عنهم كسائر الواجبات؛ لأن جميع الواجبات يشترط فيها القدرة؛ لقوله -تعالى-: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقوله -تعالى-: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، انتهى كلامه -رحمه الله.

متى يكون الجهاد فرض عين؟

يكون الجهاد فرض عين في ثلاث حالات:
  • الحالة الأولى
إذا حضر المسلم المكلف القتال، والتقى الصفان، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}، وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلـِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الـْمَصِيرُ} وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم - أن التولي يوم الزحف من السبع الموبقات.
  • الحالة الثانية
إذا حضر العدو بلدًا من بلدان المسلمين تعين على أهل البلاد قتاله وطرده منها، ويلزم المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله مَعَ الـْمُتَّقِينَ}.
  • الحالة الثالثة
إذا استنفر إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك، قال الله -تعالى-: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، وقال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالـْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}، وعن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا هجرة بعدَ الفتحِ ولكن جهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا استُنْفِرْتُم فانفِروا».

جنس الجهاد فرض عين

         وجنس الجهاد فرض عين: إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد؛ فيجب على المسلم أن يجاهد في سبيل الله بنوع من هذه الأنواع بحسب الحاجة والقدرة. والأمر بالجهاد بالنفس والمال كثير في القرآن والسنة، وقد ثبت من حديث أنس-  رضي الله عنه -أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جاهدوا المشركين بألسنتكم، وأنفسكم، وأموالكم، وأيديكم»، وأضاف العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- حالة رابعة: وهي إذا احتيج إلى المسلم في الجهاد وجب عليه.

ثالثاً: مراتب الجهاد في سبيل الله

الجهاد له أربع مراتب: جهاد النفس، والشيطان، والكفار، والمنافقين، وأصحاب الظلم والبدع والمنكرات:
  • المرتبة الأولى: جهاد النفس له أربع مراتب
(1) جهادها على تعلم أمور الدين والهدى الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. (2) جهادها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها. (3) جهادها على الدعوة إليه ببصيرة، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله. (4) جهادها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، وأن يتحمل ذلك كله لله؛ فمن عَلِمَ، وعَمِلَ، وصبر، فذاك يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات.
  • المرتبة الثانية: جهاد الشيطان وله مرتبتان
(1) جهاده على دفع ما يلقى إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان. (2) جهاده على دفع ما يلقي إليه من الشهوات والإرادات الفاسدة، فالجهاد الأول بعد اليقين والثاني بعد الصبر، قال الله -تعالى-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لـَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، والشيطان أخبث الأعداء، قال الله -تعالى-: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير}.
  • المرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين
وله أربع مراتب: (بالقلب، واللسان، والمال، واليد)، وجهاد الكفار أخص باليد وجهاد المنافقين أخص باللسان. المرتبة الرابعة: جهاد أصحاب الظلم والعدوان، والبدع والمنكرات وله ثلاث مراتب: (1) باليد إذا قدر المجاهد على ذلك. (2) فإن عجز انتقل إلى اللسان. (3) فإن عجز جاهد بالقلب، فعن أبي سعيد-  رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، وأكمل الناس عند الله من كمَّل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد؛ ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم أنبيائه ورسله؛ فإنه كمّل مراتب الجهاد وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه ما تتابع الليل والنهار.

جهاد أعداء الله فرع عن جهاد النفس

         ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث فضالة بن عبيد الله - رضي الله عنه -: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب»، كان جهاد النفس مقدَّمًا على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له؛ فإنه ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرها الله به وتترك ما نهاها الله عنه ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصار عليه وعدوه الذي بين جنبيه غالب له وقاهر له؟ ولا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج. فهذان عدوان وبينهما عدو ثالث لا يمكن للعبد أن يجاهدهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط الإنسان عن جهادهما ويخوِّفه ويخذله، ولا يزال يُخَوِّفه ما في جهادهما من المشاق، وفوات اللذات، والشهوات، فلا يمكنه أن يجاهد هذين العدوين إلا بجهاد هذا العدو الثالث وهو الأصل لجهادهما وهو الشيطان.

ضوابط الجهاد في الإسلام

للجهاد في الإسلام ضوابط وشروط نذكرها فيما يلي:
  • الضابط الأول: فقه شروط وجوب الجهاد
ذكر العلماء رحمهم الله -تعالى- شروطاً للجهاد منها ما ذكره الإمام ابن قدامة -رحمه الله تعالى- بقوله: «ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة»، ثم شرح ذلك بالتفصيل والتحقيق رحمه الله -تعالى.
  • الضابط الثاني: استئذان الوالدين في الخروج إلى الجهاد
لا شك أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، ورتبه بثمَّ التي تعطي الترتيب والمهلة، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها» قال: قلت: ثم أيُّ؟ قال: «ثم بر الوالدين» قال: قلت: ثم أيُّ؟ قال: «ثم الجهاد في سبيل الله»؛ ولأهمية بر الوالدين، وأنه من أعظم القربات، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن استأذنه في الجهاد: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد»، أي خصصهما بجهاد النفس في رضاهما. وقد بيَّن الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: أن هذا الرجل استفصل عن الأفضل في أعمال الطاعات؛ ليعمل به؛ لأنه سمع فضل الجهاد فبادر إليه، ثم لم يقنع حتى استأذن فيه فَدُلَّ على ما هو أفضل منه في حقه، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ففيهما فجاهد»، قال الحافظ ابن حجر أيضاً: «أي إن كان لك أبوان فبالغ جهدك في برهما، والإحسان إليهما؛ فإن ذلك يقوم مقام الجهاد»؛ لأن المراد بالجهاد في الوالدين: بذل الجهد، والوسع، والطاقة في برهما.

لا يجوز الخروج للجهاد إلا بإذن الوالدين

         ولأهمية ذلك بيَّن العلماء أنه لا يجوز الخروج للجهاد إلا بإذن الوالدين، بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية؛ فإن تعيّن الجهاد وكان فرض عين فلا إذن؛ لأن الجهاد أصبح فرضًا على الجميع: إما باستنفار الإمام، أو هجوم العدوِّ على البلاد، أو حضور الصف، أما إذا كان الجهاد فرض كفاية فلا يجوز الخروج إليه إلا بإذن الوالدين؛ ولهذا جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: :رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد»، وجاء في حديث جاهمة أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أردت أن أغزوَ وقد جئت أستشيرك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هل لك من أمٍّ؟»، قال: نعم، قال: «فالزمها فإن الجنة تحت رجليها»، وعن أبي الدرداء-  رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضِعْ ذلك الباب أو احفظه»؛ ولهذه الأحاديث لا يجوز الخروج إلى جهاد التطوع، وفرض الكفاية إلا بإذن الوالدين، والبقاء معهما، والإحسان إليهما أفضل من الخروج بإذنهما، أما إذا تعين الجهاد فلا؛ لأنه أصبح فرضاً على الجميع.
  • الضابط الثالث: أمر الجهاد موكول إلى إمام المسلمين واجتهاده
ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك؛ لقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}؛ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني»، وفي حديث حذيفة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع». قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمر واجبة؛ لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق».

من طاعة ولي الأمر عدم الجهاد إلا بإذنه

        ومن طاعة ولي الأمر عدم الجهاد إلا بإذنه؛ لحديث عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد فقال: «أحي والداك»؟ قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد»؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الإمام جُنَّة يُقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله -عز وجل- وعدل كان له بذلك أجر، وإن أمر بغيره كان عليه منه»، ومما يفسر ذلك قول الإمام ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: «وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك»، وقال الإمام الخرقي -رحمه الله-: «وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا، المقلّ منهم والمُكثر، ولا يخرجون إلى العدوِّ إلا بإذن الأمير، إلا أن يفجأهم عدوٌّ يخافون كلبَهُ - أي شره وأذاه - فلا يُمْكِنهم أن يستأذنوه»، قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-: فإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر الحرب موكول إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقِلَّتهم، ومكامن العدو، وكيدهم، فينبغي أن يُرجع إلى رأيه؛ لأنه أحوط للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه؛ لمفاجأة عدوهم لهم، فلا يجب استئذانه؛ لأن المصلحة تتعين في قتالهم، والخروج إليه؛ لتعيّن الفساد في تركهم، ولذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي - صلى الله عليه وسلم - فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجاً من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن، فمدحه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «وخير رجَّالتنا سلمة»، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - سهمين: سهم الفارس وسهم الراجل.

الدعوة للجهاد

ولا يجوز لأحد من رعية الإمام أن يدعو الناس إلى الجهاد دون إذن الإمام؛ لما في ذلك من المفاسد، والأضرار، ومخالفة إمام المسلمين الذي أمرنا الله بطاعته، وعلى كل مسلم أن يسأل أهل العلم إن لم يعلم؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «والواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح، في الباطن الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، فأما أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا».      

أهمية السمع والطاعة

       ومما يؤكد أهمية السمع والطاعة ما حصل لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في صلح الحديبية، حينما اشتد عليهم الكرب بمنعهم من العمرة، وما رأوا من غضاضة على المسلمين في الظاهر، ولكنهم امتثلوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان ذلك فتحاً قريباً، وخلاصة ذلك أن سهيل بن عمرو قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم: اكتب باسمك اللهم، فوافق معه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولم يوافق سهيل على كتابة محمد رسول الله، فتنازل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر أن يكتب محمد بن عبد الله، ومنع سهيل في الصلح أن تكون العمرة في هذا العام، وإنما في العام المقبل، وفي الصلح أن من أسلم من المشركين يرده المسلمون، ومن جاء من المسلمين إلى المشركين لا يرد، وأول من نُفِّذ عليه الشرط أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد محاورة عظيمة، وحينئذ غضب الصحابة لذلك، حتى قال عمر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألست نبي الله حقّاً؟ قال: «بلى»، قال: ألسنا على الحقّ، وعدوُّنا على الباطل؟ قال: «بلى»، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: «إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري»، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً، فلما فرغ الكتاب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا، فدخل على أم سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فشكا ذلك؛ فقالت: انحر واحلق فخرج فنحر، وحلق، فنحر الناس وحلقوا حتى كاد يقتل بعضهم بعضًا، فحصل بهذا الصلح من المصالح ما الله به عليم، ونزلت سورة الفتح، ودخل في السنة السادسة والسابعة في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر، ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً بعد الفتح في السنة الثامنة. وهذا ببركة طاعة الله ورسوله؛ ولهذا قال سهيل بن حنيف - رضي الله عنه -: «اتهموا رأيكم، رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لرددته»، وهذا يدل على مكانة الصحابة- رضوان الله عليهم- وتحكيمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحصل لهم من الفتح والنصر ما حصل ولله الحمد والمنة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك