رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ محمد السنين 11 سبتمبر، 2023 0 تعليق

فقه الدعوة (5) لكل مقام مقال وليس كل ما يعرف يقال

   

  • من السياسة في العلم أن لكل مقام مقالا وأن ما كل ما يُعرف يقال ولا كل ما يقال يصلح أن يقال في كل زمان وفي كل مكان
  • على المتكلم أيّا كان تخصصه أن يخاطب الناس على قدر عقولهم كما نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه أن من المسائل مسائل جوابها السكوت
  • من المصلحة كتم بعض العلم إذا كان المستمع سيتضرر من هذا العلم ويكون له فتنة فكتم العلم هنا للمصلحة يكون أنفع
 

من دروس فقه الدعوة -في باب العلم والتعليم- أنّ لكل مقام مقالا، وليس كل ما يُعرف يُقال، وليس كل ما يُقال يصلح أن يقال في كل زمان ومكان، وهذا من الحكمة ومن سياسة العلم، وسبق أن قلنا: إن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه زمانا ومكانا وأهلا، والله -تبارك وتعالى- يقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة 269).

       وفي حديث معاذ -رضي الله عنه - الذي بوّب له البخاري في صحيحه باب جواز كتمان العلم للمصلحة- ما يدل على هذه القاعدة (ما كل ما يُعرف يقال)، والحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - «أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ومُعاذٌ رَدِيفُهُ علَى الرَّحْلِ، قَالَ: يا مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ، قَالَ: لَبَّيْكَ يا رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، قَالَ: يا مُعَاذُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يا رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ ثَلَاثًا، قَالَ: ما مِن أحَدٍ يَشْهَدُ ألا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِن قَلْبِهِ، إلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ علَى النَّارِ، قَالَ يا رَسولَ اللَّهِ: أفلا أُخْبِرُ به النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: إذًا يَتَّكِلُوا، وأَخْبَرَ بهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا»، ليس هذا كتما للعلم؛ لأن المراد ببيان العلم هو نفع المستمع، أما إذا كان المستمع سيتضرر من هذا العلم، وقد يكون له فتنة، فكتم العلم هنا للمصلحة يكون أنفع، ومثل هذه الأحاديث -التي فيها الرجاء العظيم- قد يتخذها البطلة والمباحية -كما يسميهم العلماء- ذريعة لترك التكاليف، ما دام أن من قال لا إله إلا الله سيُحرّم على النار، إذًا لا داعي للعمل؛ لذلك كان كتم العلم هنا مصلحة.

حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرِفُونَ

       وفي هذا السياق كذلك ما رواه البخاري في كتاب العلم أيضا (باب من خَصّ بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموه)، ثم ذكر أثر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي يقول فيه: «حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرِفُونَ، أتُحِبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ ورَسولُهُ؟!»، وهذا فيه دليل على أن بعض العلم لا يصلح لكل أحد، وقال كذلك الشاطبي -رحمه الله-: رُبّ مسألة تصلح لقوم دون قوم؛ فالمطلوب من العلماء أن يتحدثوا إلى الناس بما تفهمه عقولهم، وأن يراعي المتحدث قدرات الناس المختلفة؛ من حيث الفهم والإدراك، فيعظهم ويعلمهم بالتدرج، ولا يلقي عليهم ما لا يستطيعون فهمه. وهذا أشرنا إليه سابقا في مسألة مراعاة الفروقات بين الناس.

خاطبوا الناس على قدر عقولهم

          وفي هذا يقول عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة»، أي كان هذا الحديث الذي حدثتهم إياه سببًا لوقوع الناس في الفتنة، وقد يتركوا الدين؛ لأنهم لم يفهموه، وفي هذا إرشاد للمتكلم -أيّا كان تخصصه- أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه-: «كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت» يقول: «كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر».

أمور قد تسبب فتنة في الدين

         هناك أمور في أهوال يوم القيامة وأشراط الساعة لا يصلح أن تطرحها أمام عامة الناس أو حديثي الإسلام، بل تُؤخر، وقد تكون المصلحة في التأخير؛ فليس كل ما يُعرف يقال، كذلك بعض المسائل التي وقع فيها خلاف يسير بين أهل العلم لا يصلح أن تُطرح أمام عامة الناس؛ فقد تشوش عليهم وتسبب لهم التباس، كذلك ما وقع بين الصحابة في الجمل وصفين، هذه أمور كان ينهى السلف عن الكلام فيها؛ لأن هذا قد يسبب للناس فتنا، كذلك الكلام في الأخبار وما يجري في بلداننا من معلومات هنا وهناك، كثير من الناس يتلقفها ثم ينقلها إلى المجالس العامة مثل الديوانيات، وقد يكون فيها ضرر؛ فليس كل ما يُعرف يقال، والنبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: «كفى بالمرء كذبا أن يُحدث بكل ما سمع»؛ لأن هذا مصيره أن يقع في الكذب.

مشكلة بعض الناس

          أيضا من الأدلة على هذه القاعدة، ما جاء عن أن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: «كنت أقرئ رجالا من المهاجرين، منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب، في آخر حجة حجها؛ إذ رجع إليَّ عبد الرحمن فقال: «لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم! فقال: «يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت»، فغضب عمر، ثم قال: «إني -إن شاء الله- لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم»، فقال عبدالرحمن بن عوف: «يا أمير المؤمنين، لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم» أي الهمج من الناس «فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وألا يعوها، وألا يضعوها على مواضعها»، وهذه مشكلة بعض الناس الذين يسمعون خطأ؛ فيفهمون خطأ؛ فينقلون خطأ. ثم قال عبد الرحمن: «فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها» فأخذ عمر بالنصيحة ولما ذهب إلى المدينة قال ما كان يريد أن يقول، وهذا أسلم؛ لأن الناس قد تفهم خطأ فتنقل خطأ.

ليس كل ما يُعرف يقال

         وأيضا من الأدلة على أنه ليس كل ما يُعرف يقال، ما ذكره الصحابي الجليل أبو هريرة أنه قال: «حَفِظْتُ مِن رَسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وِعَاءَيْنِ: فأمَّا أحَدُهُما فَبَثَثْتُهُ، وأَمَّا الآخَرُ فلوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هذا البُلْعُومُ»، هذا الذي أخفاه أبو هريرة من العلم كان فيه ذكر بعض الحوادث وبعض ما سيجري في دولة بني أمية وغيرهما، وهذا -بلا شك- لو أثير لأحدث جلبة وفتنة.

من السياسة في العلم

          القصد من ذلك أن هذا من سياسة العلم، فمن السياسة في العلم أن لكل مقام مقالاً، وأن ما كل ما يُعرف يقال، ولا كل ما يقال يصلح أن يقال في كل زمان وفي كل مكان، فانتبه أيها الفقيه في دعوتك إلى الله لمثل هذه القواعد المهمة!.  

خاطبوا الناس على قدر عقولهم

         من آداب الكلام أن الإنسان إذا كلم قومًا، فإنه يبتغي درجة من الكلام تبلغها عقولهم ويفهمونها، ولا يخاطبهم بالصعب الذي لا يدركون معناه، ولا بغريب الكلام الذي لا يفهمونه، وحتى إذا انتقى أشياء من العلم ينتقي الأشياء الأساسية الواضحة السهلة التي تقبل، ويترك الأشياء التي قد ينفر منها الناس لغرابتها عندهم، مع أنها قد تكون من الدين، لكن إذا أدى عرضها إلى تكذيب الله ورسوله، كما يفعل بعض العامة إذا عُرِض عليه شيء غريب جدًا قالوا: هذا ليس حديثًا، ولا يمكن أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاماً مثل هذا؛ فيؤدي به إلى تكذيب الله ورسوله؛ فعليه أن يجتنبها. ولذلك قَالَ عَلِيٌّ -كما روى البخاري تعليقاً-: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟!» وهذا شيء يهم الخطباء والدعاة إلى الله -عزوجل.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك