رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد احمد لوح 13 ديسمبر، 2010 0 تعليق

فقه الأقليات تأصيل وتوجيه

لم يكن مصطلح الأقلية معروفا في الماضي، ولكنه نشأ في القرن الماضي، وتأكد في مطلع القرن الخامس عشر الهجري مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع الجاليات المسلمة في بلاد الغرب، وفي مقدمة هذه الهيئات رابطة العالم الإسلامي وبعدها منظمة المؤتمر الإسلامي حيث استعملت كلمة الأقلية، وهي ترجمة لكلمة minorite التي تعني مجموعة بشرية ذات خصوصيات تقع ضمن مجموعة بشرية متجانسة أكثر منها عددا تملك السلطان أو معظمه.

      وتذكر الإحصاءات العالمية ولا سيما الأمم المتحدة أن تعداد الأقليات المسلمة في العالم تبلغ نحوا من 500 مليون مسلم، ويشكلون بذلك أكثر من ثلث عدد المسلمين في العالم، معظمهم من المهاجرين من دول العالم الإسلامي إلى العالم الغربي.

      وقد وصل المسلمون إلى هذه الدول يحملون ثقافتهم وحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ليجدوا أنفسهم وسط مجتمعات لها أديانها ولغاتها وثقافاتها، ولها أنماط العيش وأساليب الحياة الخاصة بها التي تختلف عما ألفوه ونشؤوا عليه وعاشوا في كنفه في بلدانهم الأصلية.

     وبالاحتكام إلى المقتضيات القانونية والدستورية المتعارف عليها دوليا، فإن الأقليات الإسلامية، هي إحدى الفئات الآتية:

أولا: شعوب دول غير إسلامية، ينتسبون إلى هذه الدول بالأصل والمواطنة، عليهم ما على مواطني تلك الدول من حقوق وواجبات، وتمثل هذه الفئة الكبيرة من الأقليات الإسلامية: «مسلمي الهند، والصين، والفلبين»، وينضم إلى هذه الفئة، مواطنو الدول غير الإسلامية الذين اعتنقوا الإسلام في أوطانهم، فهم جزء لا يتجزأ من شعوبهم.

ثانيا: رعايا دولة إسلامية يقيمون في دولة غير إسلامية ويخضعون لمقتضيات القانون الدولي ولأحكام القانون المحلي، وتأتي هذه الفئة في الدرجة الثانية من حيث التعداد، مثل المسلمين من دول منظمة المؤتمر الإسلامي المقيمين في شتى بلدان العالم خارج أرض الإسلام.

ثالثا: يضاف إليه أنه عندما تُذكَر كلمة «أقلية» فسرعان ما ينصرف الذهن إلى الأقلية العددية، غير أن للأقلية مفهوما آخر يرتبط معياره بالحقوق التي يكفلها الشرع والقانون، وبمدى تطبيقها وممارسة الأفراد لها، ومن ثم فمن الممكن أن نجد الغالبية العظمى من البشر في شعب من الشعوب أو دولة من الدول تعيش محرومة من حقوقها، وهنا ينطبق عليها لفظ أقلية، رغم كثرتها العددية، وبهذا المفهوم يغدو كثير من المسلمين أقلية مستضعفة في بلادهم، رغم كونهم كثرة عددية، وهذا ما أطلق عليه بعضهم: «أقلية الاستضعاف»، وهو حال كثير من الدول الإسلامية التي أبعد عنها نظام الحكم المستمد من الشريعة الإسلامية.

       وقد بدأ هؤلاء المسلمون يواجهون واقعا جديدا يثير أسئلة كثيرة جدا تتجاوز القضايا التقليدية المتعلقة بالطعام المباح، وثبوت الهلال، والزواج إلى قضايا أكبر دلالة وأعمق أثرا ذات صلة بالهوية الإسلامية، ورسالة المسلم في وطنه الجديد، وصلته بأمته الإسلامية، ومستقبل الإسلام في تلك الديار البعيدة، ومن هنا برزت الحاجة إلى النظر مجددا فيما يسمى: «فقه الأقليات».

      ومن الواضح أن هؤلاء الذين يعيشون في بلدان غير إسلامية بعقيدة إسلامية ومنهج إسلامي يخالف عقيدة الأكثرية ومنهجها يمثلون إلى حد بعيد نازلة تحتاج إلى دراسة أحوالهم ومشكلاتهم على نحو يختلف عن أحوالهم وهم يعيشون بين أهليهم وذويهم من المسلمين.

      ومعالجة موضوع: (فقه الأقليات تأصيل وتوجيه) تتطلب منا ذكر وقفات تأصيلية يحتاج إليها الفقه في فقه الأقليات:

الوقفة الأولى: التعريف: فقه الأقليات هو: «فقه نوعي يُراعي ارتباط الحكم الشرعي بظروف جماعة ما في مكان محدد، نظرا لظروفها الخاصة، يصلح لها ما لا يصلح لغيرها».

شرح التعريف: معنى هذا أن هناك ظروفا مكانية أدت إلى نشوء حالات اضطرارية تلجئ المفتي إلى الإفتاء بما يخالف فتاوى المفتين في أماكن تكون الغلبة والسلطان فيها للمسلمين، ولا شك أن للاستضعاف فقها لابد أن يختلف عن فقه التمكين.

الوقفة الثانية: أن قضية الاستضعاف والتمكين تنضبط بقاعدة: «لا تكليف إلا بما يطاق».

الوقفة الثالثة: أن فقه الأقليات ليس مرادفا لفقه الترخص، وإنما هو يراعي كلا من فقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، فضلاً عن فقه المآلات، ولا يعني بحال من الأحوال التنازل عن الثوابت التي وضعها الإسلام، وتعارفت عليها الأمة.

ولابد لمن يتعرض للإفتاء في بلاد الأقليات من ضوابط منهجية تجب مراعاتها، وأهمها:

أ. الصدق مع الله.

ب. تجنب الاضطرار الزائف (كتأخير الصلوات ومصافحة الأجنبيات).

ج. مراعاة القضايا التي تعم بها البلوى.

الوقفة الرابعة: يرجع فقه الأقليات إلى نصوص جزئية تنطبق على قضايا موضوعات ماثلة في ديار الأقليات ولا تشاركهم في حكمها الأكثريات المسلمة.

الوقفة الخامسة: من مقاصد فقه الأقليات.

1- مقصد عام وهو المحافظة على الحياة الدينية للأقلية المسلمة على مستوى الفرد أو الجماعة.

2- التطلع إلى نشر الدعوة الإسلامية في صفوف الأكثرية مع ما يستتبعه ذلك من تمكين تدريجي للإسلام في أرض الغربة.

3- التأصيل لفقه العلاقة مع الآخرين في الواقع الحضاري العالمي؛ لإيجاد حالة من الثقة المتبادلة، ومن ثم الاستماع إلى الرأي الآخر قصد إحقاق الحق.

4- التأصيل لفقه الجماعة في حياة الأقلية، بمعنى الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية: «فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية». رواه أبوداود وأحمد والنسائي بإسناد حسن.

الوقفة السادسة: من القواعد التي ينبغي أن يعتني بها من يتصدى لفقه الأقليات:

1- قاعدة التيسير ورفع الحرج.

      قال الشاطبي: «إن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، والدليل على ذلك أمور: أحدها: النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} (الأعراف: 157)، وقوله: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} (البقرة: 286)، وفي الحديث: «قال الله تعالى قد فعلت» (رواه مسلم) وفي الحديث: «بُعثتُ بالحَنيفية السمحة» رواه أحمد والطبراني بإسناد صحيح.

وحديث: «ما خُيِّرَ رسول الله [ بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه» رواه أبوداود بإسناد صحيح.

ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا التخفيف، ولكان مريدا للحرج والعسر،  وذلك باطل.

والثاني: ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار؛ فإن هذا نمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال.

ولو كان الشارع قاصدا للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف.

2- قاعدة تغيير الفتوى بتغير الزمان والمكان:

ولهذه القاعدة أصل في الأحاديث النبوية، ومنها:

هناك مسائل كان نُهي عنها أو أُمِر بها ثم غير الحكم.

فمن قبيل النهي: «كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» رواه مسلم.

وقوله [: إني كنت نهيتكم أن تأكلوا لحوم الأضاحي إلا ثلاثا؛ فكلوا وأطعموا وادخروا ما بدا لكم» رواه النسائي بإسناد صحيح.

وكان لعمل أمير المؤمنين عمر نصيب كبير في تأصيل هذه القاعدة، فمن ذلك أن عمر لم يعط المؤلفة قلوبهم في ظرف معين مع وروده في القرآن ورأى أن عز الإسلام موجب لحرمانهم.

وكذلك إلغاؤه للتغريب في حد الزاني البكر خوفا من فتنة المحدود والتحاقه بدار الكفر؛ لأن إيمان الناس يضعف مع الزمن.

وأمير المؤمنين عثمان ] أمر بالتقاط ضالة الإبل وبيعها وحفظ ثمنها لصاحبها، كما رواه مالك -رحمه الله تعالى- عن ابن شهاب الزهري، مع نهيه [ عن التقاط ضالة الإبل وذلك لما رأى من فساد الأخلاق وخراب الذمم.

وقد ضبطها عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- بقوله: «تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور».

وقد قال الشاطبي: «إن لله أحكاما لم تكن أسبابها موجودة في الصدر الأول، فإذا وجدت أسبابها ترتبت عليها أحكامها» (الاعتصام 1/109).

ويمكن التأصيل لتغير الأحكام بتغير المكان ما ثبت عن النبي [ أنه قال: «لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول ولكن شرقوا أو غربوا» متفق عليه، فقوله: «شرقوا أو غربوا» ينطبق على أهل المدينة ومن كان في حكمهم ممن تقع القبلة على جنوبهم.

ويتبع ذلك كل الأحكام الخاصة بالسفر كالقصر، والإفطار؛ لأن السفر نوع تغير في المكان.

وننبه هنا إلى أمرين مهمين:

الأول: أن اجتهاد المفتي أو الحاكم في تغيير الفتوى أو الحكم بتغير الزمان أو المكان ليس على سبيل الديمومة والاستمرار، بل هي أحكام مؤقتة ترجع إلى حالها بزوال أسبابها وعللها الموجبة.

الثاني: أن هذه القواعد ليست على إطلاقها، فليست كل الأحكام تتأثر بتغير الزمان فوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج وبر الوالدين والكثير من أحكام المعاملات والأنكحة لا تتغير بتغير الزمان، وكذلك المنهيات القطعية كالاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأكل أموال الناس بالباطل كالغش والخيانة، ومحرمات عقود البيوع المشتملة على الربا أو الغرر الفاحش أو الجهالة فكل تلك لا تستباح إلا بالضرورات التي تبيح بعض المحظورات.

3- قاعدة العذر باختلاف العلماء السائغ:

مما نص عليه العلماء في هذا الصدد عدم الإنكار في مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد، يقول ابن القيم: «إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل فيها مجتهدا أو مقلدا» (إعلام الموقعين: 3-365).

ويقول العز بن عبدالسلام: «من أتى شيئا مختلفا في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه، إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا» (قواعد الأحكام: 1-109).

إلا أنه ينبغي ضبط هذه القاعدة بألا يكون مقصد الإنسان التشهي وانتقاء ما يتفق مع متطلبات النفس والهوى.

4- قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة:

عرّف السيوطي الضرورة الفقهية بقوله: «فالضرورة بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب وهذا يبيح تناول الحرام» (الأشباه والنظائر: 61). وهذه هي الضرورة التي قال عنها إمام الحرمين: إنها لا تثبت حكما كليا في الجنس بل يعتبر تحقيقها في كل شخص، كأكل الميتة وطعام الغير.

أصل مشروعية حكم الضرورة: قول الله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} (الأنعام: 119).

قال الجصاص: «ذكر الله تعالى الضرورة في هذه الآيات وأطلق الإباحة في بعضها لوجود الضرورة من غير شرط ولا صفة.. فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وُجدت فيها» (أحكام القرآن للجصاص: 1/147).

وقال تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} (البقرة: 173).

أما الحاجة فهي التي إذا لم تتحقق يكون المسلم في حرج، وإن كان يستطيع
أن يعيش، بخلاف الضرورة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها، قال الغزالي في كتابه: «شفاء الغليل»: «والحاجة العامة في حق كافة الخلق تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق الشخص الواحد» (ص246).

وقال تلميذه أبوبكر بن العربي المالكي: (القاعدة السابعة): «اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع كاعتبار الضرورة في تحليل المحرم» ثم ضرب مثلا لذلك باستثناء القرض الذي يضرب له أجل عند مالك من بيع الذهب بالذهب إلى أجل. أضاف: «ومن ذلك حديث العرايا وبيع التمر فيها على رؤوس النخيل بالتمر الموضوع على الأرض وفيه من الربا ثلاثة أوجه: بيع الرطب باليابس، والعمل بالخرص والتخمين في تقدير المالين الربويين، وتأخير التقابض، إن قلنا إنه يعطيها له إذا حضر جذاذ النخل» (القبس: 2/790-791).

ولابد من التنبيه على أن الحاجة إذا لم تعم لا يمكن إنزالها منزلة الضرورة في إباحة المحرم، بل إن الأصل أن الضرورة وحدها تبيح المحرم وأن هذا الحكم لا ينسحب على الحاجة كما قال الشافعي: «وليس يحل بالحاجة محرّم إلا في الضرورات» (الأم: 3/28).

وقال أيضا: «الحاجة لا تحق لأحد أن يأخذ مال غيره». (الأم: 3/77).

والسيوطي يقول: «أكل الميتة في حالة الضرورة يقدم على أخذ مال الغير» (الأشباه والنظائر: ص62).

أما شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه قيّد الحاجة بالشدة عندما قال: «والحاجة الشديدة يندفع بها الغرر اليسير، والشريعة مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم» (الفتاوى الكبرى: 4/32).

وأصل اعتبار الحاجة الشديدة قاعدة رفع الحرج المستمدة من قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78) ومن القواعد الشهيرة هنا: «أن ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة» (كتحريم الخمر وتحريم النظر إلى الأجنبية ولمسها).

ونختم هذا الموضوع بالإشارة إلى قضية هامة لها دلالتها الفقهية، وفائدتها الاستدلالية حتى لا تحمل النصوص على غير محاملها، ويتعلق الأمر هنا بمعرفة أفعال النبي [ وتروكه والأسباب الحاملة عليها، وهو ما يمكن أن نسميه بـ «التفريق بين علم الفقه وعلم السياسة الشرعية».

فهناك عدد هائل من النصوص تتعلق بالحكم والسياسة العامة للدولة الإسلامية، ليس المخاطب بها أفراد المسلمين، والجهل بها أدى إلى الظلم وإظهار الإسلام في صورة سيئة منفرة، فمثلا قوله عليه الصلاة والسلام: «المسلمون شركاء في ثلاث الكلأ والماء والنار» (رواه أبوداود بإسناد صحيح)، فهمه بعض المسلمين على غير وجهه فأباح الاحتيال على شركة الكهرباء والمياه وعدم دفع الفواتير.

أسأل الله تعالى أن ييسر لنا سبل التمسك والاعتصام بهدي الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة عقيدة وعبادة وسلوكا، وأن يجنبنا الحيف والانحراف عن منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة في العقيدة والعبادة والسلوك.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك