رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 23 سبتمبر، 2010 0 تعليق

فـقه الدعوة (18) المشـقـة تجـلـب التيـســير

 

تحدثنا في الحلقة السابقة عن التدرج في الدعوة وأهمية التدرج  وحكمته، ونتحدث في هذه الحلقة عن المشقة التي يلاقيها الدعاة في سبيل تحقيق الدعوة والسير على منهج الأنبياء والرسل، ونأخذ بشيء من التفصيل أنواع هذه المشقة التي تجلب التيسير.

القاعدة السابعة - المشقة تجلب التيسير:

هذه القاعدة الفقهية من أهم القواعد التي يحتاج إليها الدعاة عند قيامهم بالدعوة إلى الله، وذلك أن الدين الإسلامي - كما يقول الشيخ ابن سعدي - «ميسر سهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتروكه.. كل مكلف يرى نفسه قادرا عليها لا تشق عليه ولا تكلفه» اهـ. ومن هذا المنطلق ينبغي أن يبدأ الدعاة مدركين هذا الأصل مستصحبين هذه الحقيقة .

ومعنى القاعدة: أن الصعوبة والعناء تكون سببا للتسهيل، ويلزم التوسيع في وقت المضايقة، فالأحكام التي ينشأ عن تطبيقها حرج على المكلف ومشقة في نفسه أو ماله، فالشريعة تخففها بما يقع تحت قدرة المكلف دون عسر ولا حرج.

وقد أكد الفقهاء أنه ليس كل مشقة تجلب التيسير والتخفيف، فالمشقة في اللغة هي الجهد والعناء والشدّة والثقل، من الفعل: شقّ، تقول: شقّ عليّ الشيء، إذا أتعبك، وقد ذكر الشاطبي أن المشقة أنواع:

الأول: مشقة غير مقدور عليها: كتكليف المقعد بالقيام، والإنسان بالطيران ونحو ذلك، فهذه لا يرد بها التكليف والنصوص دالة على ذلك.

الثاني: مشقة داخلة تحت قدرة المكلف، وهي أقسام:

1- مشقة خفيفة: كأدنى وجع في الأصبع أو الرأس ونحو ذلك، فهذا لا أثر له في التخفيف والترخص؛ لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها.

2- مشقة عظيمة: وهي الخارجة عن حدود المعتاد: بحيث يؤدي امتثال التكاليف إلى خلل في نفس المكلف أو ماله أو أطرافه، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد وموجبة للتخفيف والترخص؛ لأن حفظ النفوس والأطراف لإقامة مصالح الدين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات، مثل الاغتسال من الجنابة مع شدة البرد، وصيام المريض والحامل.

3- مشقة في الحدود العادية وداخلة تحت القدرة البشرية: وهي لا تنفك عن العبادة غالبا وهي موجودة في المسائل الدنيوية كمشقة العمل وكسب العيش، فهذه وإن كانت مشقة لكن النفس قادرة عليها، بل لو ترك الإنسان العمل من أجلها لعدّ ذلك سفها وعجزا، وهذه مثل مشقة البرد في الوضوء والصوم في الحر ومشقة السفر للحج والعلم والمشقة في إقامة الحدود ونحو ذلك، فهذه المشقة لا أثر لها في إسقاط العبادة ولا تمنع التكليف وليست سببا للترخص.

وقد دل على هذه القاعدة أدلة شرعية منها:

1- قوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}، وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وقوله: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}.

2- سئل النبي [: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: «الحنيفية السمحة» قال الشاطبي: وسميت بالحنيفية لما فيها من التيسير والتسهيل.

3- وقال [: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة».

4- وقال [: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» وقال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين».

5- وقالت عائشة رضي الله عنها: «ما خيّر رسول الله [ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما».

6- تشريع الرخص يدل على مراعاة مصالح العباد ورفع الحرج والمشقة عنهم بالتخفيف.

ومن حيث تطبيق هذه القاعدة في مجال الدعوة يقول د. عبدالرحمن المغذوي:  «المقصود بهذه القاعدة أن الأمور التي تلحق المشاق والمتاعب أو المخاوف على الداعية أو المدعو في باب الدعوة تفتح لهم باب التيسير عليهم ورفع الحرج والعنت عنهم، والإتيان من الأمور قدر المستطاع، ولكن بشرط عدم مصادمتها للنصوص أو التكليفات الشرعية.

والمتأمل في هذه القاعدة يجد أنها تتضمن محورين مهمين:

الأول: الدعاة وما يكتنف أعمالهم في بعض الأزمان والأماكن من عنت ومشقة، الأمر الذي قد يدخل بعض المشقة التي قد تضر بالدعاة، فهنا التيسير مطلوب على هؤلاء الدعاة وعدم تحميلهم فوق طاقتهم.

الثاني: المدعو وما قد يعترض طريقه من مصاعب ومشاق في تطبيق الشريعة الإسلامية وتنفيذ أحكام الإسلام كاملة، فهنا يدخل التيسير والتخفيف على هؤلاء الناس، وخصوصاً الذين يعيشون تحت ظروف سياسية واجتماعية معينة، ولاسيما في المجتمعات غير الإسلامية، كالأقليات الإسلامية في بلاد الغرب، فاليسر من طبيعة دعوة الإسلام، وليس له هدف في إلحاق المشقة المفضية للضرر على الناس» اهـ. (الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية 1/217).

ومن القواعد ذات الصلة بهذا الأصل قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور)، ومعناها أن الأمر الذي يستطيع المكلف فعله وهو يسير عليه، لا يسقط بما شق فعله عليه أو عسر، ودليل هذه القاعدة قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقوله [: «إذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم»، وقوله [: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب».

قال د. البيانوني: «ومن هنا وجب على من قدر على أداء الصلاة قاعدا أو على جنب أو بالإيماء أن يصلي كما يستطيع، ولا تسقط عنه الصلاة جميعها بسبب تعذر الإتيان ببعض أركانها.

وإن مثل هذه القاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) يمكن الاستفادة منها في جميع الحياة، ولا تقتصر على أحكام العبادات، فإذا عجز الدعاة عن تحقيق أمر الله في جميع جوانب الحياة لضعفهم أو لظروف خاصة بهم، وأمكنهم تطبيق أحكام الله في بعض الجوانب دون بعض، فلا يجوز لهم أن يتوقفوا عن تطبيق ما أمكنهم نظرا إلى ما عجزوا عنه من إقامة الدين كاملا؛ فما لا يدرك كله لا يترك جله.

وكثيرا ما فهم بعض الدعاة خطأ مقولة مشهورة لبعض الدعاة وهي: «خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة» فذهبوا إلى ترك الممكن والمتيسر منه، وانتظروا تيسر تطبيق الإسلام كاملا، أو وجهوا النقد الشديد اللاذع إلى من استطاع أن يطبق بعض الجوانب دون بعض، غافلين عن مثل هذه القاعدة الفقهية.

فهناك فرق بين من يستطيع أخذ الإسلام جملة ومن لم يستطع ذلك مع اعتقاده بوجوب الأخذ به جميعا، وسعيه إلى الأخذ به من جميع أطرافه، وبين من ظن أن بإمكانه أن يتخير من الإسلام بعض جوانبه ويترك بعضها، فيأخذ بشيء ويترك أشياء، مشوها بذلك وحدة الإسلام وكماله، وهذا هو الذي ينزّل عليه قول: «خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة» اهـ. (القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي ص139).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك