رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 15 أغسطس، 2010 0 تعليق

فـقه الدعوة (15)- التـوازن في الدعــوة

 

تحدثنا في الحلقة السابقة عن قاعدة مراعاة مقاصد الشريعة الكلية والجزئية وقلنا إن هذه القاعدة يحتاج إليها المجتهد وطالب العلم لضبط مناهج الاستدلال والبعد عن مواطن الزلل في الاجتهاد

القاعدة الخامسة - التوازن في الدعوة:

     والتوازن والموازنة في حقيقته هو القصد والاعتدال وهو إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص.

     وهذه القاعدة من القواعد المهمة للمسلم عموما والداعية إلى الله على وجه الخصوص؛ لأن التوازن سمة عامة من سمات الإسلام كما قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: «فجعل الله هذه الأمة وسطا في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى وبين من جفاهم كاليهود، ووسطا في التشريعات لا تشديدات اليهود وآصارهم ولا تهاون النصارى، وأباح لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح وحرم عليهم الخبائث من ذلك، فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها، ووهبهم من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا {أمة وسطا} كاملين معتدلين».

     وقال الطحاوي: «ودين الله في الأرض والسماء واحد، وهو دين الإسلام؛ قال الله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}، وهو بين الغلو والتقصير وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس».

وقال الحسن رحمه الله: «سنتكم - والله الذي لا إله إلا هو - بين الغالي والجافي».

      ويقول ابن الجوزي: «اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول محروس القواعد لا خلل فيه ولا دخل وكذلك كل الشرائع، إنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال».

     وقال شيخ الإسلام: «دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر، إما إفراط فيه وإما تفريط».

      ويقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: «الوسط في الدين ألا يغلو الإنسان فيه فيتجاوز ما حد الله عز وجل، ولا يقصر فيه فينقص عما حد الله عز وجل، الوسط في الدين أن يتمسك بسيرة النبي [، والغلو في الدين أن يتجاوزها والتقصير ألا يبلغها».

فظاهر مما تقدم أن الناس ثلاثة أقسام:

فالقسم الأول: المتمسك بالحق الملازم للصراط المستقيم دون إفراط ولا تفريط.

أما القسم الثاني فهو المفرط الزائغ المضيع لحدود الله، والتفريط هو التقصير في أحكام الدين.

وأما القسم الثالث فهو الغالي المتجاوز لحدود الله الذي يخالف الهدي المستقيم تحت شعار التدين والزهد والورع، فهو مخالف للسنة باسم السنة، ومن هنا تأتي خطورة الغلو والتنطع؛ إذ إنه في ظاهره تمسك بالدين إلى أقصى غاية، والحال أنه مفارق لسنة النبي [ القائمة على القصد والاعتدال في كل الأمور.

     فالغلو مبالغة في التمسك بالدين وليس خروجا عنه، فهو نابع من الرغبة في الالتزام به، ولكن هذه الرغبة لم توافق علما صحيحا ولا هديا مستقيما؛ فأورثت سلوكيات وتصرفات تخالف كليات الشريعة في سماحتها ويسرها.

       وقد يكون الباعث على الغلو الطمع في الظفر بأعلى درجات الدين بأقصر وقت، فيندفع الشخص دون بصيرة ويقفز دون روية يريد أن يسبق غيره فيضيف من تلقاء نفسه وسائل تقربه بزعمه من مقصوده، في حين أنه مخالف لهدي النبي [.

     وقد يكون الباعث على الغلو محاولة استدراك ما فرط فيه الإنسان فيما مضى من عمره، فيفيق بعد زمن من غفلته ويحاول أن يستثمر زمانه ويلحق بركب السابقين فيسرع الخطى بغير هدى فيضل السبيل.

     ويعرف شيخ الإسلام ابن تيمية الغلو بأنه: مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك.

وقال ابن حجر والشاطبي: هو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد.

الأدلة على أهمية التوازن:

     قال عز وجل في صفة عباد الرحمن: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، وقال: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا}. وقال عز وجل مبينا المنهج المعتدل: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك}.

     ذكر البخاري عن أبي حجيفة قال: آخى النبي [ بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء - وهي زوجته - متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال له: كل فإني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم، فنام، ثم ذهب ليقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا؛ فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي [ فذكر له ذلك فقال النبي [: «صدق سلمان».

      عن أنس قال: جاء ثلاثة نفر إلى أبيات أزواج النبي [ يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء النبي [ فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني»، متفق عليه.

      وحيث إن التوازن هو القصد والاعتدال وضده الإفراط والتفريط فقد جاءت نصوص كثيرة في التحذير من الغلو والتنطع، منها:

1 - قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا}.

2 - قوله تعالى: {يأهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق}.

3 - وعن ابن عباس قال: قال لي رسول الله [: «هلم القط لي الحصى»، فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: «نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»، أخرجه أحمد.

قال شيخ الإسلام: وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال.

4 - وقال [: «هلك المتنطعون» ثلاثا،  أخرجه مسلم.

قال النووي: أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.

     وقال ابن مسعود: والذي لا إله إلا هو ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول الله [، وما رأيت أحدا كان أشد عليهم من أبي بكر، وإني لأرى عمر كان أشد خوفا عليهم أو لهم.

5 - وقال [: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» أخرجه البخاري.

قال ابن حجر: والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب.

6 - وقال [: «عليكم هدياً قاصداً فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه»، أخرجه أحمد.

قال ابن الأثير: يشاد الدين: أي يقاومه ويكلف نفسه من العبادة فوق طاقته.

7 - قالت له عائشة: هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل فقال [: «لا تنام الليل؟! خذوا من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا».

8 - عن أنس قال: دخل رسول الله [ المسجد وحبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا؟ قالوا: حبل لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: «حلوه! ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد».

     ولا يفهم من هذه النصوص أن الإكثار من العبادة مذموم مطلقا، كيف وقد جاءت النصوص الشرعية بالحث على المسارعة في الخيرات والإكثار من الطاعات وعمارة الأوقات بالمفيد من العلم النافع والعمل الصالح؟ وإنما المقصود حث المكلف ليتحلى بالوسطية والاعتدال في تدينه وعبادته بحيث يحقق التوازن والتكامل بين الوظائف الدينية والواجبات الأخرى الشرعية والدنيوية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك