رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 3 أغسطس، 2010 0 تعليق

فـقه الدعوة (13)لا واجب بلا اقتدار ولا محرم مع اضطرار

 

تحدثنا في الحلقة السابقة عن قاعدة الاتباع لا الابتداع في الدعوة، وقلنا: إن الدعوة إلى الله من أشرف الوظائف الدينية ومن أفضل القربات الشرعية؛ ولذلك ينبغي على الداعي إلى الله تعالى أن يحرص على اتباع السنة والبعد عن البدعة في موضوع دعوته وأسلوبها، فيقدم الموضوعات المشروعة ويتجنب المحدثات والبدع فلا يدعو إليها، بل يحذر منها وينبه إليها.

 

القاعدة الثالثة - لا واجب بلا اقتدار ولا محرم مع اضطرار:

     هذه قاعدة كلية من قواعد الشريعة المطهرة، لها تعلق وثيق بجميع التكاليف الدينية، ومن جملتها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها من أجلّ التكاليف الشرعية وأفضل القربات الدينية .

     ومن المعلوم أن التكليف: هو إلزام مقتضى خطاب الشرع، وشرطه العلم والقدرة، قال شيخ الإسلام : «من استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل؛ فمن كان عاجزا عن أحدهما سقط عنه ما يُعجزه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها».

     فلابد من أمرين ليتحقق التكليف، الأول: التمكن من العلم، والثاني: القدرة على العمل ، والدليل على الأمر الأول:

1- قوله عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، وقال عز وجل: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، قال شيخ الإسلام: «بين سبحانه أنه لا يعاقب أحدا حتى يبلغه ما جاء به الرسول ، ومن علم أن محمدا رسول الله فآمن بذلك ولم يعلم كثيرا مما جاء به الرسول لم يعذبه الله على ما لم يبلغه؛ فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ فإنه لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلوغ أولى وأحرى»، وقال: «فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين لم يثبت حكم وجوبه عليه».

2- حديث المسيء صلاته ،قال شيخ الإسلام: «أن النبي [ علمه الصلاة بالطمأنينة ولم يأمره بإعادة ما مضى قبل ذلك لأنه لم يكن يعرف وجوب ذلك عليه».

3- حديث يعلى بن أمية فيمن جاء إلى النبي [ وهو محرم بعمرة وعليه جبة ومتضمخ بخلوق؛ فأمره النبي [ بخلع الجبة وغسل أثر الطيب ، قال شيخ الإسلام : «ولم يأمره بدم ولو فعل ذلك مع العلم للزمه دم».

4- عن أبي هريرة ] أن رسول الله [ قال: «قال رجل لم يعمل خيرا قط: إذا مات فحرّقوه واذْرُوا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال: لم فعلت ؟ قال: من خشيتك وأنت أعلم. فغفر له» قال ابن تيمية: «إن هذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفريق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلا بذلك ضالا في هذا الظن مخطئا فغفر الله ذلك».

والدليل على الأمر الثاني:

1- قوله عز وجل:  {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقوله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال عز وجل: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}، قال شيخ الإسلام: «تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمرا ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، وتأمل قوله: {إلا وسعها} كيف تجد تحته أنهم في سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق ولا حرج ومشقة، فإن الوسع يقتضي ذلك، فاقتضت الآية أن ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج».

2- قوله [ : «دعوني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»، مما يدل على أن الأمر بالقيام بالواجبات مقيد بما يطيقه الإنسان وما يقدر عليه، فمن عجز عن شيء سقط عنه.

فهذه القاعدة (التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل) تدل على رحمة الله بعباده، وأن الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد بما يقدرون عليه علما وعملا، وأن حجة الله على عباده إنما تقوم بشيئين: التمكن من العلم والقدرة على العمل به، قال شيخ الإسلام: «الأحكام الشرعية التي نصبت عليها أدلة قطعية معلومة مثل الكتاب والسنة المتواترة ... إذا بلغت هذه الأدلة للمكلف بلاغا يمكنه من اتباعها فخالفها تفريطا في جنب الله وتعديا لحدود الله، فلا ريب أنه مخطئ آثم، وأن هذا الفعل سبب لعقوبة الله في الدنيا والآخرة»، وقال: «أصول الشريعة تفرق في جميع مواردها بين القادر والعاجز، والمفرط المعتدي ومن ليس بمفرط ولا معتد، والتفريق بينهما أصل عظيم معتمد وهو الوسط الذي عليه الأمة الوسط».

     وبناء على هذا تأتي هذه القاعدة (المعجوزعنه ساقط الوجوب، والمضطر إليه غير محظور) كتطبيق للقاعدة المتقدمة، وهي تشتمل على أصلين:

الأول : أن الواجبات تسقط عن المكلف في حالة عجزه عن القيام بها، قال ابن تيمية: «فلم يوجب الله ما يعجز عنه العبد»، فالعجز عن العلم أو العمل قد يكون عجزا تاما ـ كعجز المجنون عن العلم، أو عجز العمى عن الجهاد ، أو عجز المسلم المقيم بين الكفار عن تعلم أحكام الإسلام ـ وفي هذه الحالة يقول ابن تيمية: «التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة؛ فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه العلم كالمجنون والطفل، ولا تجب على من يعجز كالأعمى والأعرج والمريض في الجهاد، وكما لا تجب الطهارة بالماء والصلاة قائما والصوم وغير ذلك على من يعجز عنه».

      وقد يكون عجزا نسبيا، بحيث يتمكن من العلم أو العمل لكنه ليس تمكنا تاما بل يلحقه في ذلك كلفة ومشقة، وفي هذه الحالة يقول ابن تيمية: «قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم والقدرة تخفيفا وضبطا لمناط التكليف، وإن كان التكليف ممكنا، كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وإن كان له فهم وتمييز، لكن ذاك لأنه لم يتم فهمه ... وكما لا يجب الحج إلا على من ملك زادا وراحلة عند جمهور العلماء مع إمكان المشي لما فيه من المشقة ..».

الثاني: أن الاضطرار إلى المحرم يبيح فعله فيرتفع الإثم عن المضطر ويسوغ له الإقدام على المحظور، قال شيخ الإسلام: «كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج، وهو منتف شرعا... ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}، فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية ـ وهي ترك واجب أو فعل محرم ـ لم يحرم عليهم لأنهم في معنى المضطر».

     ويستفاد من هذا العرض الموجز لهذه القاعدة الكلية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب القدرة والاستطاعة الشرعية، وهذا ما دل عليه قوله [: {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه...» الحديث، قال الجصاص في (أحكام القرآن): «أخبر النبي [ أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان، ودل على أنه إن لم يستطع تغييره بيده فعليه تغييره بلسانه ، ثم إن لم يكن ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه» اهـ.

     وقال الغزالي في (إحياء علوم الدين) في بيان شروط المحتسب الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: «كونه قادرا، ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه؛ إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها» اهـ.

وقال القرطبي في ( الجامع لأحكام القرآن): «أجمع المسلمون ـ فيما ذكر ابن عبد البرـ أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه» اهـ.

     وقد ذكر الفقهاء بعض الأمور التي تسقط فريضة الاحتساب، ومنها: أن يكون عاجزا عن إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكره عمر السنامي في كتابه (نصاب الاحتساب) وقال: «إذا عجز عن الاحتساب فلا يأثم بتركه ،لأن التكليف بقدر الوسع، ولكن ينبغي أن يكون حزينا بذلك مغتما» اهـ.

     فمما يخرج عن القدرة (العجز الحسي)؛ كضعف البدن أو الهزال أو عدم القدرة على تحمل الأذى في نفسه أو ماله أو عرضه، و(العجز المعنوي) بأن يجهل المعروف والمنكر ومراتبهما وفقه تغييرهما، قال النووي: «إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة الصيام والزنى والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء» اهـ.

     ومما ينبغي التنبه إليه هو ( تفاوت المكلفين في القدرة ) ، قال د. عبد الكريم زيدان في (أصول الدعوة ): «ولا شك في تفاوت الدعاة في هذه القدرة، وأعظمهم قدرة الأمير، أي من بيده السلطة والأمر والنهي؛ ولهذا فهو مسؤول أكثر من غيره عن إزالة المنكر» اهـ.

     وقد يعجز المكلف عن الدعوة والإنكار على أشخاص ويقدر على غيرهم، فهنا ينبغي أن يقوم بوظيفته الدينية فيما يقدر عليه، وقد ذكر ابن مفلح في (الآداب الشرعية) أن الإمام أحمد سئل عن رجل له جار يعمل بالمنكر لا يقوى على أن ينكر عليه، وجار آخر ضعيف يعمل بالمنكر أيضا، ويقوى على هذا الضعيف، أينكر عليه؟ قال: «نعم، ينكر على هذا الذي يقوى على أن ينكر عليه».

فهذه قاعدة مهمة للدعاة إلى الله عز وجل تبين لهم مجال التكليف ودائرة العمل؛حتى لا يكلفوا أنفسهم فوق طاقتها، ولا يقوموا بما لم يجب عليهم ، فيقعوا بين ضائقتين: إما أن يفعلوا ما لم يؤمروا، أو أن يقعوا تحت تأنيب الضمير وتوبيخ النفس في تركهم ما ظنوه تقصيرا في ترك الواجبات أو التهاون في أمور الديانات، والواقع أنهم معذورون غير مكلفين بما لا يقدرون عليه، قال عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقال: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك