رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 20 يوليو، 2010 0 تعليق

فـقه الدعوة (11) -قواعد الدعوة إلى الله

 

تحدثنا في الحلقة السابقة عن مسألة الصبر في الدعوة إلى الله تعالى، وذكرنا منزلته في الشرع، وقلنا: إن على الداعية أن يتحلى بالصبر وضبط النفس والابتعاد عن التهور والانفعال؛ لأن فقه الدعوة يقوم على العلم والحلم والرفق والصبر، فهي أركان الدعوة الصحيحة وحماها الذي يحميها من الزيغ والزلل في القول والعمل بإذن الله تعالى.

من فقه الدعوة ومن أهم أولويات الدعاة الإحاطة بالقواعد الشرعية - الأصولية والفقهية - التي لها ارتباط وثيق واتصال عميق بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأن القواعد الشرعية أخذت من الأدلة الشرعية والمسائل الجزئية التي تنطبق عليها، فجعلها العلماء مبادئ كلية جامعة لفروع كثيرة يمكن معرفة حكمها من خلال تلك المبادئ العامة .

فالعلم بالقواعد الشرعية من البصيرة التي هي صفة أتباع النبي [ في دعوته كما قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} قال ابن القيم:» فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر، الداعون إلى الله على بصيرة، فمن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة، وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوى » اهـ.

يقول د. محمد أبو الفتح البيانوني في بحثه المفيد: ( القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي ص104): «إن الدعوة الإسلامية لا تكون سليمة ولا صحيحة ومنتجة إلا تقيدت بتلك القواعد الشرعية، وانضبطت بتلك الضوابط ...، وما ضعفت الدعوة الإسلامية على مدى الأيام، وما تخبطت في طريقها إلا بسبب بعدها عن تلك البصيرة المنشودة ووقوعها في انحراف المنهج أو قصوره، وخطأ الأسلوب وضعف الوسيلة» .

وما أحوج الدعاة اليوم إلى تفهم القواعد الشرعية، والانضباط بها ليقوموا بدعوتهم حق القيام، فيصلح الله لهم أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم، قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}.اهـ.

ويقول أ.د. عبد الرحيم المغذوي في كتابه النفيس: ( الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية 1/293): « ولا يخفى ما لدراسة قواعد منهج الدعوة من فوائد عظيمة على جميع المجالات ومناشط العمل الدعوي،  إنها تحفز إلى إيضاح مسائل الدعوة وبيانها، وعدم تركها للاجتهاد أو العشوائية التي أضرت كثيراً بمسار الدعوة وألحقت بها التهم والظنون؛ فإن لدراسة قواعد منهج الدعوة بأنواعها المتعددة أهمية في مجالات العمل الدعوي، وإضاءة لمسار الدعاة، وتحديدا لكيفية عملهم وتعاملهم مع الناس، وإيضاحا لفقه الخطاب والكتاب، وإنارة لمعرفة وسائل الدعوة، وتحذيرا من كل ما يضاد ويخالف المنهج القويم في الدعوة إلى الله » اهـ.

وفيما يلي بعض القواعد الشرعية في باب الدعوة إلى الله جل وعلا مما أثبته العلماء وكبار الدعاة مما استنبطوه من النصوص الشرعية واستقراء السيرة النبوية والوقوف على التاريخ الإسلامي القديم والحديث بما حواه من تجارب زاخرة بالدروس والعبر .

 القاعدة الأولى - البدء بالعقيدة أولاً:

قبل الخوض في تحرير هذه القاعدة وتقريرها، لابد من التنبيه على أن المقصود بالعقيدة هنا معناها الشامل العام، وهو كل ما يتعلق بقضايا الإيمان والاعتقاد التي جاء بها النبي [ من ربه تعالى ليعقد عليها المكلف قلبه ويبني إيمانه ودينه، وليس المقصود جانبا من قضايا الاعتقاد، كمسائل الألوهية وما يناقض ذلك أو ينقصه من الشركيات وبيان ذلك والتحذير منه، أو مسائل الأسماء والصفات وما وقع فيها من انحراف والردود والمناقشات لهذه الانحرافات، وغير ذلك من جوانب العقيدة المهمة، إنما المقصود هنا التفريق بين أمرين:

الأول: عرض العقيدة الإسلامية بمعناها الواسع الشامل، وهذا الجانب يؤخذ من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة الصحيحة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان .

الثاني: الدفاع عن العقيدة والرد على الانحرافات والشبهات، وقد وضع العلماء ضوابط لهذه الردود تبين أصولها ومناهجها، يقول أ.د. عمر الأشقر: «وقد وضع علماء أهل السنة والجماعة هذه القواعد في مقابل انحرافات الفرق الإسلامية في مجال الاعتقاد، ومعرفة هذه الضوابط في غاية الأهمية؛ لأنها تعصم من الانحراف في مجال الاعتقاد، وتحصن المسلم ضد تلك الانحرافات .

وأحب أن أقرر هنا - والحديث للدكتور الأشقر ـ أن هذه الضوابط والقواعد - مع عظيم أهميتها ـ لا يمكن أن توجد العقيدة الحية النابضة الدافعة إلى العمل ...، إن الذي يوجد القوة الدافعة النابضة في أعماق النفوس لون آخر من العقيدة، وأعني بذلك العقيدة التي تقوم على العلم الذي يسوقه القرآن والسنة في الحديث عن الله وعظمته وقدرته ورحمته» أهـ باختصار من رسالة (أهل السنة والجماعة أصحاب المنهج الأصيل ص35ـ39).

ويؤكد هذا المعنى د. البيانوني في رسالته (بصائر دعوية ص15) فيقول: «البصيرة الرابعة: ألا يبدأ من يريد تعليم العقيدة الصحيحة ونشرها بين الناس بأسلوب رد الشبهات المثارة حولها، ومناقشة الخلافات الواردة فيها، بل يبدأ بتقرير العقيدة الصحيحة وإبراز أهميتها والأدلة عليها ومحاسنها على وجه تتلاشى أمامه الشبهات القائمة أو المتوقعة تلقائيا؛ وذلك حتى لا تتداخل الشبهات مع أصل العقيدة، فتعكر من صفوها أو تعقد من فهمها ...أولاً، وتماشيا مع ملامح المنهج الرباني الذي يبدأ بتقرير العقيدة الصحيحة، وتثبيتها في النفوس البشرية وتحصينها، قبل أن يبدأ بإبطال العقائد الفاسدة السائدة ومناقشة شبهاتها...ثانياً، وانسجاما مع الفطرة البشرية السليمة التي تتقبل الحق وتقبل عليه، وترفض الباطل وتنفر منه... ثالثاً»اهـ.

إذا تقرر هذا نعود إلى القاعدة الأولى وهي البدء بالعقيدة أولاً في مجال الدعوة إلى الله، ومقصود هذه القاعدة - كما يقول د. المغذوي - أن أي دعوة لابد أن تبنى على العقيدة الصحيحة، وأي نشاط دعوي ينبغي أن ينطلق من توجيهات العقيدة وأحكامها، وإن أي دعوة ونشاط دعوي يجانب العقيدة الصحيحة أو يبتنى على عقائد باطلة أو محرفة أو أنه يهمل العقيدة ولا يضعها في اعتباره ومقصوده، فإن تلك الدعوة أو ذلك النشاط محكوم عليه بالفشل الذريع، والتخبط الفظيع، وسوف ينال من الجفاء بقدر انكفائه عن العقيدة» اهـ.

والبدء بالعقيدة في الدعوة إلى الله تعالى هو الواجب الذي أمر الله تعالى به فقال:     {فاعلم أنه لا إله إلا الله}، وقال سبحانه: {يأيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا} يقول الشيخ ابن سعدي: «وأمر هنا بالإيمان به وبرسله وبالقرآن وبالكتب المتقدمة فهذا كله من الإيمان الواجب ...، فمن آمن هذا الإيمان المأمور به فقد اهتدى وأنجح»اهـ.

والقرآن كله في العقيدة، فهو إما خبر عن الله تعالى أو عن رسله أو عن عباده وما أعد لهم، أو عن أعدائه وما أعد لهم، وإما أمر بالتوحيد أو لازمه، أو نهي عن الشرك والسبل المفضية إليه وهكذا .

وهي طريقة النبي [ ومنهجه في الدعوة إلى الله، حيث بدأ بالعقيدة وانتهى بها، فكان في أول حياته يدعو إلى توحيد الله وترك عبادة ما سواه، وعند موته حذر من الشرك ومداخله فقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت عائشة: «يحذر ما صنعوا»، وكان [ بين ذلك يجاهد لأجل العقيدة ويقول: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ».

والبدء بالعقيدة طريقة الرسل، فكل نبي قال لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}، وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.

ويقرر د. البيانوني هذه الأهمية بقوله: «وتكمن في جعل العقيدة المبتدأ الذي يبدأ منه الداعية في دعوته والمنطلق الذي ينطلق منه؛ ذلك لأن جميع تصرفات الإنسان وأعماله إنما تتأثر بالعقيدة التي يعتقدها والتصور القائم في نفسه عنها، فإذا كان معتقده صحيحا سالما، كان عمله صحيحا سالما، وإذا كان معتقده باطلا فاسدا، كان عمله باطلا فاسدا، وإذا كان معتقده مشوبا بشيء من باطل أو ضلال، لم تسلم أعماله وتصرفاته من ذلك الباطل وهذا الضلال... أليس من مجانبة العقل والحكمة بعد بيان هذه البصيرة: أن يبدأ الداعية بالدعوة إلى خلق معين أو فضيلة خاصة ـ مهما كانت عظيمة ومهمة ـ قبل أن يدعو إلى العقيدة التي انبثق منها ذلك الخلق، وترتبت عليه تلك الفضيلة ؟ ألا يكون حال هذا الداعي  عندئذ كحال من ينفخ في رماد أو يبني بيتا على غير أساس ؟» اهـ (بصائر دعوية ص13).

ومن هنا فينبغي على الدعاة التفقه في هذه القاعدة الشرعية؛ لما لها من أولوية، وأن يجعلوا منطلق دعوتهم العقيدة بمعناها الواسع علما وتعلما ومنهجا ومرجعا، مع ضرورة ربط مباحث العقيدة بآثارها العملية في النفس والعمل والسلوك، فللعلم بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته آثار في حياة الإنسان واستقامته كما قال جل وعلا: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} يقول ابن سعدي: «فإنهم إذا عرفوا كمال رحمته ومغفرته سعوا بالأسباب الموصلة إلى رحمته وأقلعوا عن الذنوب، وحذروا وبعدوا عن كل سبب يوجب لهم العقاب «.

وللإيمان باليوم الآخر آثار كما قال تبارك وتعالى: {ذلك لمن خاف عذاب الآخرة} وقال: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا}، وللإيمان بالقدر آثار كما قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه}، قال علقمة: «هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من الله فيرضى ويسلّم».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك