رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: forqan 21 أغسطس، 2010 0 تعليق

عبد الحميد بن باديس سيــــرة عالـــم شُـــغل ببناء الإنســــان عــــــــن تأليــــــف الكتــــــــب

 

بقلم:  سيد يوسف

إن رجلا يقول عن أمته: "إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد...، في لغتها، وفي أخلاقها، وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج ولها وطن معين هو الوطن الجزائري"...لهو رجل يقظ عقله نقية سريرته... بسيرته تنهض الأمة... فمن يا ترى يكون عبد الحميد بن باديس؟

 

قبس من نشأته

هو عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس، ولد فى مدينة قسطنطينة في (11من ربيع الآخر 1307هـ = 4 من ديسمبر 1889م)، ونشأ في أسرة كريمة ذات عراقة وثراء ودين، فأبوه كان حافظًا للقرآن، ويُعد من أعيان المدينة، وعُرف بدفاعه عن حقوق المسلمين في الجزائر، وينتمي إلى أسرة مشهورة في الشمال الإفريقي اشتهر من رجالها "المعز بن باديس" (398-454هـ = 1008- 1062م)، الذي انفصل بالدولة الصنهاجية عن الدولة الفاطمية، وأعلن مذهب أهل السنة والجماعة مذهبًا للدولة.

حفظ القرآن وهو في الثالثة عشرة من عمره، ثم انتقل إلى العالم الكبير "حمدان الونيسي" بجامع سيدي محمد النجار، وتلقى منه العلوم العربية والإسلامية، وكان لهذا العالم أثر إيجابي فى نفس صاحبنا...ودلالة ذلك أن أراد ابن باديس الهجرة إلى المدينة المنورة ليلحق بشيخه هناك لكن والده منعه من ذلك لصغر سنه، وبعث به إلى تونس لاستكمال دراسته في جامع الزيتونة، وكانت منارة العلم في الشمال الإفريقي، وتلقى العلم في الزيتونة على جماعة من كبار العلماء البارزين، فلازم العلامة محمد الطاهر بن عاشور، وأخذ عنه الأدب، وكان له تأثير كبير عليه عبر عنه ابن باديس بقوله: "بث فيّ روحًا جديدة في فهم المنظوم والمنثور، وأحيى مني الشعور بعز العروبة والاعتزاز بها، كما أعتز بالإسلام".

 

أساتذته

تأثر ابن باديس بمجموعة من العلماء كان منهم:

- حمدان الونيسى حيث تلقى منه العلوم الإسلامية كما مر بنا.

- محمد الطاهر بن عاشور حيث تلقى منه علوم اللغة والأدب.

- محمد النخلي القيرواني حيث تلقى منه دروسا فيما يحيى القلوب من رقائق.

- البشير صعز، حيث تلقى منه دروسا فى التاريخ.

- حسين أحمد المدني، عالم الهند الكبير الذى نصحه بخدمة الإسلام فى الجزائر لأنه فى حاجة إلى أمثاله.

- البشير الإبراهيمي، وهو رفيق دربه في الذَّود عن الإسلام واللغة العربية في الجزائر.

- محمد نجيب المطيعي حيث التقاه ونهل منه بعض الحكمة.

- والشيخ أبو الفضل الجيزاوي التقاه.

 

من بعض جهوده

حين عاد إلى الجزائر عزم على بعث نهضة علمية جديدة، فألقى دروسه في الجامع الكبير بقسطنطينة وفي الجامع الأخضر، وعاد بالناس المحرومين إلى رياض القرآن الوارفة الظلال حيث ألقى دروسه في تفسير القرآن بالجامع الأخضر، فاستمع إليه المئات، وجذبهم حديثه العذب، ونظراته الدقيقة، وفكره المتّقد، واتخذ ابن باديس من هذا المسجد مدرسةً لتكوين القادة وإعداد النخبة التي حملت مشعل الإصلاح، وأخذت بيد الأمة إلى الطريق المستقيم، وكان يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر، ويقضي نهاره معلمًا الأطفال الدينَ وعلوم العربية حتى بعد صلاة العشاء، ثم يستأنف دروسَه في تفسير القرآن الكريم من التاسعة مساءً حتَّى منتصف الليل للكبار، وداعيًا إياهم إلى الالتزام بالدين وتغيير ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم.

قاوم ابن باديس بعض أصحاب الطرق الصوفية في الجزائر الذين اتخذهم الاستعمار الفرنسي وسيلةً للسيطرة على عقول الشعب الجزائري، ووصفهم بأنهم ابتدعوا أعمالاً وعقائد من عند أنفسهم، معتقدين أنهم يتقربون بها إلى الله.

أتم تفسير القرآن فى دروسه على حلقات متصلة استمرت خمسا وعشرين سنة، واحتفلت الجزائر بختمه احتفالاً قوميًا في قسطنطينة في (13 من ربيع الآخر 1357هـ = 12 من يونيو 1938م).

أنشأ مكتبا كان نواةً للتعليم الابتدائي فوق مسجد سيدي بومعزة، ثم انتقل إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة (1336هـ = 1917م)، ثم تطوَّر هذا المكتب إلى مدرسةٍ عصريةٍ كبيرةٍ تتسع لأعداد كبيرة من الأطفال.

أسس جمعية التربية والتعليم الإسلامية في سنة (1349هـ =1931م)؛ بهدف نشر الأخلاق الفاضلة والمعارف الدينية والعربية، والصنائع والحرف اليدوية، واستعان في سبيل تحقيق ذلك بإنشاء:

- مدرسة للتعليم.

- وملجأٍ للأيتام.

- ونادٍ للمحاضرات.

- ومصنع لتعليم الحرف.

وقد أنشأ عبد الحميد بمساعي الجمعية تلك 170 مدرسة بالإضافة إلى كتاتيب انتشرت في كل مكان والتي اخذ الفرنسيون في محاربتها من كل اتجاه، وكانت الجمعية ترسل النابغين من طلابها الذين واصلوا التعليم لاستكمال دراستهم في بعض جامعات الدول الإسلامية، كما كانت الجمعية تُعفي البنات من مصروفات التعليم، ويتعلَّمن بالمجَّان؛ تشجيعا لهن على التعليم. أما البَنون فلا يُعفى منهم إلا غير القادرين.

أنشأ لجنةً من أعضاء جمعية التربية والتعليم تُعنى بالطلبة، وتساعد المحتاجين منهم من الصندوق المالي المخصص لهذه المهمة، وكان يموَّل من تبرعات الأسخياء والمحسنين الذين شجعتهم أعمال الشيخ وجهوده التعليمية على التبرع لرعاية الطلاب.

أصدر جريدة المنتقد سنة (1345هـ = 1925م) ورأس تحريرها، لكن المحتل عطلها، فأصدر جريدة الشهاب في السنة نفسها، وعمد "ابن باديس" إلى استغلالها في توسيع دائرة نشاطه التعليمي، ليشمل أكبر عدد ممكن من الناس، فخصص افتتاحياتها لنشر مختارات من دروسه في التفسير والحديث، تحت عنوان: "مجالس التذكير"، واستمرت الشهاب في الصدور حتى سنة (1358هـ = 1939م).

ودعا إلى عقد مؤتمر إسلامي في الجزائر سنة (1355هـ = 1936م)؛ للحيلولة دون تنفيذ مؤامرة إدماج الشعب الجزائري المسلم في الأمة الفرنسية النصرانية، التي كان ينادي بها بعض نواب الأمة الجزائريين، ورجال السياسة الموالون لفرنسا، ونجح "ابن باديس" ورفاقه في القضاء على هذه الفكرة الخبيثة، وإفشال فكرة الاندماج مع فرنسا التي خُدع بها بعض الجزائريين.

 

ابن باديس

مجاهداً الاستعمار

أثمرت جهود ابن باديس إنشاء جمعية العلماء المسلمين في سنة (1350هـ = 1931م)، وجعلت شعارها "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا"، وانتخب العلماء الشيخ "عبد الحميد بن باديس" رئيسًا للجمعية، وأدركت الجمعية أهمية التربية والتعليم في تحقيق أهدافها والمحافظة على كيان الأمة في مواجهة جهود مستميتة من المستعمر الفرنسي للقضاء على الهوية الإسلامية؛ ولهذا اهتمت بإنشاء المدارس التي تُعنى بالمناهج العربية الإسلامية، وحثت الأمة على إرسال أبنائها إلى مدارسها؛ بهدف تعليم أكبر عدد ممكن من أبناء الأمة تعليمًا صحيحًا.

ووجهت عنايتها إلى التعليم في المساجد فكما أنه لا مسجد دون صلاة، فكذلك لا مسجد دون تعليم؛ ولذا وضعت الجمعية برامج واسعةً لنشر التعليم الديني والثقافة العربية للصغار والمبتدئين، واستكمال ثقافة من درسوا باللسان الفرنسي، كما عنيت بإرسال الوعاظ إلى القرى لنشر الوعي الإسلامي بينهم... وقد نجحت جهودهم أيما نجاح رغم أن الاستعمار الفرنسى قد أغلق نحوًا من ألف مدرسة ابتدائية وثانوية وعالية، كانت تضم نحو مائة وخمسين ألف طالب، ووضعت قيودًا على فتح المدارس.

 

من مواقفه مع

الاستعمار الفرنسي

عندما سافر وفد يمثل المؤتمر الإسلامي الجزائري إلى باريس قابلهم ولادييه مدير الشؤون الجزائرية في الحكومة الفرنسية والذي هدد أعضاء الوفد بقوله: "إن لدى فرنسا مدافع طويلة فى 18 يونيو 1936م" فتصدى له بن باديس بكل شجاعة وقوة وقال: " إن لدينا مدافع أطول"!

وصادف 1937 عام احتفالهم بمرور قرن على احتلالهم قسطنطينة وأرادوا إشراك الأهالي به، لكن بن باديس أصدر منشور 28 ديسمبر باسمه يطلب فيه من الأهالي مقاطعة هذا الاحتفال؛ فاستجاب له الشعب وخاب أمل الفرنسيين.

 

من أقواله

كان ينشد الشعر لشعبه ليغرس فيهم بذرة الوطنية و العروبة، فيقول :

شعـــــــب الجزائر مسلم

                 وإلى العــــــروبة ينتسب

من قال حاد عنَ اصله

               أو قال مــــات فقد كذب

يا نشء أنت رجاؤنا

               وبك الصـباح قد اقترب

 

آثار ابن باديس

انشغل ابن باديس ببناء الإنسان وإنقاذ الأجيال التي ولدت في أحضان الاستعمار، عن تأليف الكتب، ومعظم إنتاجه الفكري مقالات ودروس ألقاها في المساجد والمدارس، سلم لنا بعضها وفُقد معظمها الآخر، وقد جُمع كثير من آثاره بعد وفاته، منها:

- تفسير ابن باديس.

- مجالس التذكير من حديث البشير النذير، طبعته وزارة الشؤون الدينية بالجزائر (1403هـ= 1983م).

- العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

- رجال السلف ونساؤه، وهي مجموعة من المقالات ترجم فيها "ابن باديس" لبعض الصحابة.

-وقد جمع "عمار الطالبي" معظم آثار "ابن باديس" ونشرها في الجزائر في أربعة مجلدات سنة (1388هـ = 1968م).

 

وفاة ابن باديس

في أيامه الأخيرة مرض مرضًا شديدًا فوافته المنية، في (8 من ربيع الأول 1359هـ = 1940م) عن واحد وخمسين عامًا.

 

فى النهاية

كانت هذي سيرة رجل انشغل ببناء أفراد يخدمون قضية الحق والخير، ولربما طواه النسيان قليلا ولكن...أبدا لن يمحى من ذاكرة الأمة ففي بنيها من يحيون دراسة تلك القمم بفهم وعلم وبصيرة راشدة عساهم يفيدون الإسلام والمسلمين. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك