رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: ذياب أبو سارة 4 يونيو، 2024 0 تعليق

ضوابط معاملة الحاكم عند أهل السنة والجماعة    (٢)

 

  • أبدع المؤلف حفظه الله في بيان موقف المعتدى عليه من قبل الحاكم في أربعة مطالب تتعلق بنوع الاعتداء (الدين والعرض والنفس والمال)
  • أهل السنّة لم يواجهوا الحكام بالعواطف والآراء الزائفة وإنما اتبعوا ما يدينون الله به ومما دلّت عليه نصوص الشرع المطهرة

ذكرنا في الحلقة الأولى من هذا الكتاب الماتع تعريف الحكم والإمامة اصطلاحًا، والمراجعات، والتعريف بأهل السنة وألقابهم وضوابط النصح للحاكم، ونكمل فيما يلي استعراض بقية الفصول والأبواب.

موقف المعتدى عليه من قبل الحاكم

          وقد أبدع المؤلف -حفظه الله- في بيان موقف المعتدى عليه من قبل الحاكم في أربعة مطالب تتعلق بنوع الاعتداء: (الدين والعرض والنفس والمال)، وقد أورد المؤلف في تفصيل ذلك ما يلي: فالاعتداء على الدين له أنواع كثيرة وحالات متنوعة، فقد يكون هذا الاعتداء متعلقاً بعقيدة المعتدى عليه، كأن يأمره باعتقاد مالا يحل اعتقاده، سواء أكان متعلقاً بالله -سبحانه- أم بكتابه أم برسوله أم بصحابة رسوله أم غير ذلك من مسائل الاعتقاد، وقد يكون هذا الاعتداء متعلقاً بفعل أو قول ما لا يحل فعله أو قوله، وهذا يتردد بين أن يكون معصية أو بدعة أو كفراً، كأن يأمره بحلق لحيته أو إسبال إزاره أو شرب خمر، أو أن يأمره بإقامة المولد النبوي أو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، أو أن يأمره بسب الله أو إلقاء المصحف في القاذورات، وضرب الأمثلة على هذا تطول وتكثر.

الموقف الصحيح للرعية

          وقد سبق أن بينت الموقف الصحيح للرعية من أمر الحاكم إياهم بمعصية الله أو كفر به، أو غير ذلك مما لا يحل فعله، ووضحت بالنصوص الشرعية وبأقوال السلف المرعية أنه لا طاعة لهم في ذلك إلا أن يُكره فينهض الإكراه له رخصة على الإقدام على المكره عليه، سواء أكان معصية أم كفرًا بحسب ما سبق بيانه، ولما كان الاعتداء من قبل الحاكم على دين الرعية لا يخلو من حالين حال يكون فيه الاعتداء على الدين محصوراً في مكان معين أو في عمل معين، وحال يكون فيها الاعتداء عاما على الدين؛ بحيث لا يستطيع من الرعية أن يقيم دينه على الوجه المطلوب.

الطاعة مع الاجتهاد في النصح

        ففي الحالة الأولى يجب على الشخص أن ينتقل من ذلك المكان أو يترك ذلك العمل، فيفر ويهرب من تلك الأمكنة والوظائف حرصًا على سلامة دينه وابتغاء لمرضاة الله وطاعة لأمره؛ فإنه من يتق الله -سبحانه- ييسر له أمره، ويرزقه من حيث لا يحتسب، قال -تعالى-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }.

اعتداء الحاكم على الدين والعرض والمال

          ثم ذكر المؤلف موقف المسلم إذا كان الاعتداء عاما من قبل الحاكم على الدين، وبين حكم الشرع بوجوب الهجرة فرارا بالدين، ومثاله ما حصل للإمام أحمد -رحمه الله- في مسألة خلق القرآن، حين اجتمع إليه بعض أهل بغداد في ولاية الواثق وشاوروه في ترك الرضا بإمرته وسلطانه، فقال لهم: عليكم بالنكرة في قلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين، وهذا ما يجب على الرعية إن اعتدى الحاكم على دينهم، وهذه هي مواقف السلف في ذلك، وكل خير في اتباعهم وكل شر في مخالفة طريقهم. أما إذا كان اعتداء الحاكم على العرض (الصائل)؛ فإن المسلم مطالب بالدفع عن عرضه بما يمكن، ولو بالقتال، ولا يجوز التمكين منه بحال، ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل دون أهله فهو شهيد»، أما إذا كان بالشتم أو القذف فهذا لا يسوغ للمعتدى عليه القتال ولا حمل السلاح، بل بالمناصحة والمدافعة بالحسنى. أما اعتداء الحاكم على النفس، فإن كان دون القتل كالضرب والجلد وغير ذلك، فالحكم هنا وجوب الصبر والسمع والطاعة وتحريم المنازعة في الإمام أو الخروج عليه، وإن كان بالقتل والإهلاك وسفك الدم، فإنه يقاتل: «من قتل دون ماله فهو شهيد». وأما اعتداء الحاكم على المال فيجب فيه الصبر وعدم نزع اليد من الطاعة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع»، وكذا استئثار الحاكم بالمال دون الرعية، ولا التفات لقول ابن حزم المخالف.

الإكراه ودرء المفاسد

         ثم تطرق المؤلف إلى حكم من أكرهه الحاكم على ظلم أحد أو الاعتداء على دين غيره؛ فإذا ثبت الإكراه بشروطه المعتبرة، وإن كان على معصية وتعدّ على العرض فعليهم الطاعة والصبر على ذلك، وينبغي عليهم النصح له، أما إقراره وتزيين عمله الباطل من إراقة دم أو ظلم مسلم ونحو ذلك فإنه لا يجوز، وهو مدعاة لسخط الله وعقوبته، ونبه المؤلف إلى ضرورة اعتبار القاعدة الفقهية في ذلك من ارتكاب أدنى المفاسد، وأخف الضررين. ثم بين المؤلف ثناء السلف على من لم يقاتل في الفتنة التي جرت بين علي وطلحة والزبير وبين على ومعاونة واعتزلوا القتال، ومن هؤلاء سعد بن أبي وقاص وأبو بكرة وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة وأبو هريرة وغيرهم.

موقف الرعية من أفعال الحاكم في نفسه

          إن مما ابتلى الله به المسلمين -بسبب ذنوبهم- أن جعل عليهم في عدد من العصور والأزمان ولاةٌ وخلفاء من أهل البدع، منهم من كان داعياً إلى بدعته، فيمتحن الناس عليها ويعاقب من لم يعتقد أو يعمل بها، ومنهم من لم يكن إلى بدعته من الدعاة، وقد ذاق أهل السنّة -بسبب بعض هؤلاء الولاة- الأمرين، من انتشار البدعة ودروس السنة، حتى امتحنوا أهل السنّة على مقولة ضالة وبدعة قد تصل إلى حد الكفر، بل قد تكون كفراً ولا يقتضي ذلك تكفير مرتكبها كما فعل المأمون ثم المعتصم ثم الواثق من امتحان الناس ولا سيما العلماء على القول بخلق القرآن، كما سيأتي ذكره. ولكن أهل السنّة لم يواجهوا هؤلاء الحكام بعواطف عاصفة ولا بآراء زائفة، وإنما اتبعوا في معاملتهم لهؤلاء الولاة ما يدينون الله به مما دلّت عليه نصوص الشرع المطهرة، وما أثر عن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من أهل العلم والدين. ثم ذكر المؤلف حديث عوف بن مالك الأشجعي الله قال: سمعت رسول الله -[- يقول: «خيار أئمتكم الذين يحبونكم وتحبونهم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم»، قال: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله -تعالى-، ولا ينزعن يداً من طاعة»، وغير ذلك من الأحاديث الدالة على أن شرط الخروج على الولاة، ونزع اليد من الطاعة هو رؤية الكفر البواح الصريح الذي قام البرهان الشرعي على أنه كفر، ولا شك أن البدعة دون ذلك.    

الموقف من الحاكم المبتدع

           ولا يختلف الحكم من وجوب السمع والطاعة وعدم المنازعة في الولاية إذا ما كان الحاكم مبتدعًا ولكنه يسرّ بدعته ولا يظهرها ولا يدعو لها، بل هو أخف حالاً من المبتدع الداعية، فكانت طاعته وتحريم الخروج عليه من باب أولى وأحرى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وأما من كان مبتدعًا بدعة ظاهرة أو فاجرًا فجورًا ظاهرًا فهذا إلى أن تنكر عليه بدعته وفجوره أحوج منه إلى أن يطاع فيما يأمر به، ومن حقوق الإمام على رعيّته أداء العبادات خلفه أو معه كالصلاة، والحج، والجهاد، والزكاة، وغير ذلك، ما دام الحاكم مسلماً، ولم يرتكب كفراً بواحاً يخرج به من الإسلام، ومن حقوق الولاة التي ينبغي التنويه بها حتى وإن كانوا مبتدعة-الدعاء لهم بالصلاح والرشاد، والاستغفار لهم والترحم عليهم، والنهي عن سبهم ولعنهم. وإذا نظرنا إلى موقف شيخ الإسلام إمام أهل السنة أحمد بن حنبل - رحمه الله - تجاه الخلفاء العباسيين في عهده ممن عرفت عنهم البدعة، نجد أنه كان يدعو لهم بالصلاح والهداية ولا يدعو عليه؛ لذلك لما قيل له -وقد أخرج إلى المعتصم يوم ضرب-: ادعُ على ظالمك. فقال: ليس بصابر من دعا على ظالمه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك