رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: فيصل بن قزار الجاسم 20 يوليو، 2010 0 تعليق

شبه القبوريِّين والردّ عليها(2-2)

 

 
ذكرنا في الحلقة السابقة بعض من شبه القبوريين التي يبنون عليها القصص والحكايات والأحاديث الضعيفة والموضوعة، كقولهم يجوز التوسل بالنبي [ بل ودعاءه والإستغاثة به بعد موته واستدلالهم ببعض الآيات والأحاديث الصحيحة بطريقة غير صحيحة استناد إلى أهوائهم ، وقد تم الرد على ثلاث شبهات في الحلقه السابقة وسنستعرض بعضاً من شبهاتهم والرد عليها في هذه الحلقة الشبهة الرابعة

وهي ما ذُكر عن الإمام مالك - رحمه الله -  أنه ناظر أبا جعفر المنصور أمير المؤمنين في مسجد رسول الله [، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد؛ فإن الله أدب قوما فقال: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} (الحجرات: 2)، ومدح قوما فقال: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} (الحجرات: 3)، وذمّ قوما فقال: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} (الحجرات: 4)، وإن حُرمته ميتا كحرمته حيا.

فاستكان لها أبو جعفر، وقال: يا أبا عبدالله، أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله [؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله فيك؛ قال الله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} (النساء: 64).

 الرد عليها من وجوه:

أولها: أنها قصة باطلة كسائر ما يستدلون به من قصص؛ فإن هذه القصة قد ذكرها القاضي عياض في (الشفاء) بإسناده عن محمد بن حميد الرازي بها، ومحمد بن حميد الرازي لم يدرك الإمام مالكا، وهو معروف بسرقة الحديث، وكذَّبه أبو زرعة وابن خراش وصالح جزرة.

الثاني: أنها كذب على الإمام مالك بلا ريب من وجوه:

منها: أنها مخالفة لمذهب مالك ومذهب سائر الأئمة؛ فإنهم متفقون على أن من سلم على النبي [ ثم أراد الدعاء، فإنه يستقبل القبلة، كما روي عن الصحابة، فعلم بهذا أنه كذب عليه مخالف لمذهبه، كما كذبوا عليه في أنه كان يأخذ طنبورا يضرب به ويغني لما كان في المدينة من يغني.

ومنها: أن مالكا من قوة متابعته للسنة كره أن يقال: زرت قبر النبي [، كما ذكره ابن القاسم عنه في (المدونة).

الشبهة الخامسة

هي قولهم: إن النبي [ حي في قبره، ويدّعون الإجماع عليه، ويجعلون هذا دليلا على جواز سؤاله والاستغاثة به.

واستدلوا على حياته في قبره بأمور:

1. ما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن أبي هريرة ]، أن النبي [ قال: «ما من رجل يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام».

قالوا: وهذا يدل على حياته.

2. أن الشهيد حي في قبره؛ كما في قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران: 169)، والأنبياء أكمل منهم؛ فيقتضي ذلك ثبوت حياتهم في قبورهم.

3. إن نساءه لا يحل الزواج بهن بعد موته؛ لقوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما} (الأحزاب: 53)، وإنما منعن من الزواج لبقائهن في عصمته حيث إنه حي في قبره.

4. ما رواه الإمام مسلم من حديث أنس ] عنه، أن رسول الله [ قال: «أتيت - وفي رواية هداب: مررت - على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في فبره». وهذا دليل على حياته، ورسولنا أكمل منه.

5. ما رواه أبو يعلى والبزار وغيرهما: أن النبي [ قال: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون».

< الجواب على هذه الشبهة وبيان زيفها يكون من طريقين:

الأول: إبطال الاستدلال بكل دليل على حدة.

الثاني: إبطال جملة المسألة والشبهة، وهي استدلالهم بثبوت حياته في قبره على جواز دعائه.

أما الطريق الأول:

فأولا: الرد على استدلالهم بحديث رد السلام من وجوه:

منها: أن حديث رد التسليم غاية ما فيه أن روح النبي [ تُردُ إليه (لرد التسليم) لا أنها مستقرة باقية في جسده كل وقت وحين.

ومنها: أن الأحاديث الصحيحة فرقت بين تسليم البعيد على النبي [ وبين تسليم القريب، وبينت أن النبي [ يسمع سلام القريب ويُبلَّغ سلام البعيد، يدل عليه الأحاديث التالية:

أولها: ما رواه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من حديث ابن مسعود ]، أن النبي [ قال: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبلغونني عن أمتي السلام».

ثانيها: ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أوس بن أوس ]: أن النبي [ ذكر فضل يوم الجمعة، ثم قال: «فأكثروا عليّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليّ».

ثالثها: ما رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة ]، أن النبي [ قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا عليّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني».

فهذه الأحاديث وغيرها تبين أنه يُبلَّغ سلام البعيد ولا يسمعه، فيكون حديث رد السلام خاصا بالقريب، وهذا الحديث هو الذي استند إليه الإمام أحمد وأبو داود على جواز زيارة قبره؛ إذ فهموا منه السلام من قريب جمعا بين الأحاديث.

ومنها: أن ردّ الروح على الميت ليرد السلام ليس خاصا بالنبي [، بل هو لكل أحد؛ لما رواه ابن عبدالبر وصححه من حديث ابن عباس ]، والبيهقي في (الشعب) من حديث أبي هريرة ]، أن النبي [ قال: «ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام».

فهل يقتضي هذا حياة الناس كلهم في قبورهم، وجواز الاستغاثة بهم؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!

ومثله ما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال أصحابه إذا ولوا عنه بعد دفنه كما في الصحيح.

ثانيا: الردّ على استدلالهم بحياة الشهيد في قبره، من وجوه:

منها: أن حياة الشهيد منصوص عليها، ومع ذلك نُهينا عن دعائهم والاستغاثة بهم؛ لعموم قوله تعالى: {فلا تدعوا مع الله أحدا}، فيكون ما ذكروه من حياة الشهيد دليلا لنا لا لهم.

ومنها: أن الآية التي بيّن الله فيها حياة الشهداء قد ذكر الله عز وجل فيها أن الشهداء في حياتهم هذه {يرزقون}، أي: يرزقهم الله من خيرات الجنة، فكيف يُطلب منهم الرزق ونحوه وهم لا يرزقون أنفسهم، بل يرزقهم ربهم؟!

ومنها: أن النبي [ بيّن حقيقة حياة الشهداء بعد الموت، فقال فيما رواه مسلم من حديث ابن مسعود ]: «أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل».

ثالثا: الرد على استدلالهم على حياته بحرمة نكاح نسائه من وجوه:

منها: أن الأمة مجمعة على حل نكاح نساء الشهيد مع النص على حياته؛ فدل هذا على أن حياة الشهداء والأنبياء في قبورهم ليست كحياتهم في دنياهم.

ومنها: أن نساء النبي [ أتين بعدة شرعية بعد موته، وكذا نساء الشهداء؛ مما يدل على بطلان ما استدلوا به من كونه حيا كحياته الدنيوية.

ومنها: أن نساء النبي [ إنما حرم عليهن النكاح بعده خصيصة لهن؛ لأنهن اخترن الله ورسوله لما خيرهن النبي [ بين الله ورسوله وبين زينة الحياة الدنيا، ولأنهن زوجاته في الآخرة؛ فصانهن الله عن فراش ثان.

رابعا: الرد على استدلالهم برؤية النبي [ لموسى وهو يصلي في قبره، من وجوه:

ومنها: أن هذا ليس خاصا بموسى عليه السلام؛ فقد روى ابن حبان في (صحيحه) من حديث جابر ]، أن النبي [ قال: «إذا دخل الميت القبر، مُثلت له الشمس عند غروبها، فيقول: دعوني أصلي»، وهذا مع الموت المحقق له؛ فدل على عمومه، ومنه الحديث الذي سبق ذكره «أن الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون».

ومنها: أن رواية رؤية النبي [ لموسى وهو يصلي في قبره في المعراج قد أعلَّها بعض العلماء كالدارقطني، وإن كان مسلم قد رواها.

وأما الطريق الثاني: فهو الجواب عن جملة المسألة، وهي قولهم: إن حياة النبي [ في قبره حياته الدنيوية؛ مما يقتضي جواز الاستغاثة به لأجلها، فالرد عليها وبيان بطلانها من وجوه:

أولها: أن دعوى حياته في قبره الحياة المعهودة مناقضة ومصادمة لقوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر: 30)، ولقوله: {وماجعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون} (الأنبياء: 34)، وقوله: {كل نفس ذائقة الموت} (الأنبياء: 35).

الثاني: أنه من المعلوم أن النبي [ لم يكن حيا في قبره كالحياة الدنيوية المعهودة التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه، ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس والنكاح وغير ذلك، بل حياته [ حياة برزخية، وروحه في الرفيق الأعلى، وكذلك أرواح الأنبياء، والأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت، ولا تقاس الحياة الدنيا بالحياة البرزخية؛ كما لا تقاس حياة الجنين في بطن أمه بالحياة الدنيوية، وكذلك الحياة الأخروية، فقياس حياة على حياة من أبطل الباطل.

الثالث: أنه لو كان حيا يسمع السائل ويجيب الداعي، لأفتاهم في شرائع الإيمان، وأراح أمته من كثير من المسائل التي أعيت الصحابة، فكيف يشهد اختلافهم واقتتالهم ولا يجيب ولا يحل الإشكال؟! وكيف يحصل ما حصل من النزاع ولا يأتيه أحد إلى قبره يستغيثه ويسترشده؛ لأنه حي كما يزعمون في قبره؟! وقد قال عمر ] فيما رواه البخاري: «وددت أن رسول الله [ لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهدا في الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا».

وما بال الصحابة كانوا إذا قُحطوا يستسقون بدعاء العباس ] والنبي [ حي بجانبهم لا يأتونه ولا يستسقونه؟ وهل هذا إلا دليل صريح على بطلان ما زعموه وادعوه؟! 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك