رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عمر شحات 10 يوليو، 2010 0 تعليق

داء القلوب

 إن حياة القلوب وسعادتها مرهونتان بمعرفة الله تعالى ومحبته وطاعته، وإن موتها وغلظتها وقسوتها مرتبطة بمعصيته تعالى وكره ما أمر جل وعلا، وأفعال العباد وصلاحها مبنية على عمودين  مجتمعين: الأول: متابعة السنة، والثاني: إخلاص النية لله تعالى.  والنية محلها القلب، فإذا صح القلب وبرأ من العلل والآفات والأمراض خلصت نيته واستقامت سريرته وعلانيته. وإن فسدت النية حبط القول والعمل  وخسر الإنسان خسراناً مبينا؛ حيث إن صلاح الأعمال لا ينفك عن صلاح القلوب وصحتها وسلامتها.

وإن القلوب تمرض وتصيبها الأدواء ويصل بها الأمر الى أن تموت على الرغم من أن صاحبها يمشي على الأرض ويتنفس ويأكل ويشرب، فإذا  أصابتها علة أو مرض انحرفت عن جادة الطريق المستقيم بقدر ما يعتريها من هذه الأمراض. أما إذا تشرب  القلب المرض واستمرأه وتغلغل وترعرع فيه فإن صاحبه قد يصبح منافقاً خالصاً بل قد يصل به الأمر الى أعمال  الشرك والكفر، وذلك إذا وصل به المرض الى التعلق بغير الله والذبح والنذر لغير الله  – عياذا بالله - وبالتالي عبادة غير الله؛ قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} (الفرقان: 43).

وأخرجَ مُسلم من حديث حُذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه - قال: قال النبي[:  «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نُكت فيه نُكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف مَعروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه».

وهذا بيان واضح لأثر الذنوب والمعاصي واتباع الهوى وكيف يطمسان على القلب،   لكن من فضل الله تعالى وكرمه وإحسانه أن جعل التوبة تصفي القلب وتطهره وتنقيه من أدرانه  وعلله  وآفاته. ويتبع التوبة الأعمال الصالحة وهجران المعاصي وأماكنها ومواطنها، يقول  ابن القيـِّم - رحمه الله-: "والقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر، ‏ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة‏".

وحريٌّ بكل مُسلم ومُسلمة أن  ينظر في حال قلبه فإن  وجد به  داء طلب له الدواء من رب الأرض والسماء قبل أن يستفحل الداء ويعظم البلاء فعندها قد يستعصي أو يستحيل عليه الشفاء.

وأول العلاجات والأدوية: التوبة النصوح؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(التحريم: 8).

ومن أسباب العلاج هجر المعاصي والذنوب ،   والإلحاح بالدعاء؛ قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:60) .

ومُلازمـة القـُرآن ففيه شفاء للقلوب. وفعل الطاعات واجتناب المحرمات، والكسب الطيب الحلال، ولا نغفل الاستغفار؛ فإنه من استغفر الله ثم تاب إليه متعه متاعا حسنا إلى أجل مسمى؛ قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (هود: 90)، وأخرج أبو داود والترمذي من حديث ‏ابن عباس ‏ ‏أنه قال: «قال رسول الله[:‏ «‏من لزم ‏ ‏ الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب». وليتخذ المرء وردا من "الأذكار" في النهار ووقت النوم وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف؛ فإنه لا يلبث أن يؤيده الله بروح منه ويكتب الإيمان في قلبه. وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس جماعة في المساجد؛ فإنها عمود الدين، وعلى أداء الزكاة، ومتابعة وتنوع الأعمال الصالحة، ومجالسة الصالحين ومصاحبة الأخيار، والابتعاد عن مراتع الشيطان وسلطانه الذي يكثر وينتشر في مجالس اللهو وأماكن الفتن،  كما على المسلم  حضور حلقات الذكر ومجالس  العلم، ولا يسأم من الدعاء والرجاء،  فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل فيقول: قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي، وليعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا.

ولا يمكن بحال من الأحوال أن ندع في هذا المقام إخلاص العمل؛ فمهما كان العمل يسيراً لكن مع الإخلاص يكون أجره وثوابه عظيما مثل حديث الرجل الذي رأى كلباً يلهث من شدة العطش فنزل البئر وملأ الخف وسقى الكلب فغفر الله له؛ حيث فعل ذلك في الصحراء ولم يره أحد؛  لابتغاء مرضاة الله تعالى، نسأل الله تعالى الاخلاص في القول والعمل.

والقلب المريض هو الذي يُقبلُ على الشر، ويُدبِرُ  ويُعرضُ عن الخير، وأكثر ما يُصيب  المنافقين  والكافرين، أما قلوب المؤمنين المسلمين فقد تُصابُ إصابة يسيرة بقدر ضعف إيمانها وزلاتها ووقوعها في الآثام والمعاصي؛ قال الله تعالى  في شأن  أمراض القلوب  وعاقبة أمرها وأصناف أصحابها: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (البقرة: 10). وقال جل وعلا: {َوأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة:125)، وقال تقدست أسماؤه:   {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}(الحج:  35)، وقال أيضا: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} لئنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا}  (الأحزاب:12و60). والآيات في هذا كثيرة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك