رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 17 يناير، 2024 0 تعليق

خطبة المسجد النبوي – من دلائل قدرة الله في خلقه والحث على غوث المنكوبين

  • الذي ابتلي وعانى صنوفَ البلايا واشتدَّت مصيبتُه فصبَر واحتسَب فأجرُه أعظمُ وجزاؤُه أجزلُ ورحمةُ اللهِ تكتنِفُه
  • تَقِفُ البشريةُ مذهولةً أمامَ كونٍ غاية في الإبداع والإعجاز والإتقان فمراكز البحوث تدرس وتكشف كل يوم عجيبة من عجائب هذا الكون
  • إسقاطُ أحداث الزلازل على قومٍ بعينـِهم في زمنٍ بعينِه على أنَّها عقوبةٌ رجمٌ بالغيب وافْتِئَاتٌ على الشرع

جاءت خطبة المسجد النبوي بعنوان: (من دلائل قدرة الله في خلقه والحث على غوث المنكوبين) لإمام المسجد النبوي: (عبدالباري بن عواض الثبيتي) الذي قال: عندما يُقلِّب الإنسانُ نَاظِرَيْهِ في هذا الكون الفسيح، يقف مشدوهًا وهو يرى الجَمال والجلال، والكمال والانسجام، في كونٍ لا تنقضي عجائبُه، ولا تنتهي أسرارُه، والقرآن يحثُّ على التدبُّر والتفكُّر في ملكوت السماوات والأرض، قال الله -تعالى-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}(الزُّمَرِ: 5)، ترى في كل يوم إعجازًا وإتقانًا، ليلٌ يجيء، ونهارٌ يذهب، ونهارٌ يجيء، وليلٌ يذهب، في حركة دائبة وجريٍ لا يَقِرّ، ولم تَقُلِ البشريةُ يومًا منذ بَدْء الخليقة: تأخُّر الليلُ عن المجيء في وقته، أو طلوع الشمس قبل موعدها، فمن يدبِّر الأمرَ؟! ومَنْ يُنظِّم الحركةَ في تعاقُبٍ لا يختلُّ؟! وتبادُلِ مواقعَ لا يتوقفُ؟.

         ولو اجتمع الخلقُ كلُّهم على أن يأتوا بالليل في موضع النهار، أو بالنهار في موضع الليل ما استطاعوا، يقول سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(الْقَصَصِ: 71-72).

صفحة من صفحات الكون

        الليلُ يَسدُلُ أستارَه بضياء القمر اللطيف الهادئ، ليحققَ السكونَ والهدوءَ، والشمسُ تضيء الدنيا كلَّها بسراج وهَّاج، تبثُّ في الكونِ الحياةَ، وفي النفوسِ النشاطَ للمعاش والأعمال، وفي معرض الإعجاز والإبداع يقول -تعالى-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}(يس: 38)، حركةُ الشمسِ جريٌ هادئٌ غير مضطربٍ وغيرُ محسوسٍ، ويقول سبحانه عن القمر: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}(يس: 39)، قدَّر للقمر منازلَ وأزمانًا يمر بها حتى يصير هلالًا دقيقًا، حتى أنَّه لا يكاد يُرى مِنْ فَرطِ دقتِه، وانحنائه بانتظامٍ بالغٍ، فمَنْ خلَقَهُما؟! ومَنْ أودَع فيهما النورَ والضياءَ؟! ومَنْ حَفِظَ سيرَهما ومسارَهما؟! ومَنْ يُدبِّر أمرَهما صباحَ مساءَ؟! -سبحانه- ما أعظمه! {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}(النَّمْلِ: 88).

إعجاز يُبهِر العقلَ ويُثير الدهشةَ!

           وفي صفحة أخرى من صفحات هذا الكون، الذي يُبهِر العقلَ ويُثير الدهشةَ يقول -سبحانه-: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}(النَّحْلِ: 14)، ويقول -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ}(لُقْمَانَ: 31)، ويقول -سبحانه-: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}(الْحَجِّ: 65)، كيف تجري الفلك بأمره -سبحانه؟! خلَق اللهُ البحرَ على هذه الصفة العظيمة، وجعَله ميسَّرًا للانتفاع، قابلًا لحَمْل المراكب، وألهَم الإنسانَ صُنعَ المراكبِ على كيفيةٍ تَحفَظُها من الغَرَق في عُباب البحر، وعصَمَهم من توالِي الرياح والموج في أسفارهم، إنه تقديرُ قادرٍ، ونظامُ خالقٍ.

البساط الأخضر الذي يُغطِّي اليابسةَ

        ولا تُخطئ العينُ ذلك المنظرَ البهيجَ، البساطَ الأخضرَ الذي يُغطِّي اليابسةَ، {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}(الشُّعَرَاءِ: 148)، نجد النباتَ وقد وشَّح الأرضَ بأجمل الألوان، وكساها بأبهى الأغصان، نرى ثمارًا مختلفة، تُسقى بماء واحد، يُفضِّل اللهُ بعضَها على بعض في الأُكُل، يقول سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(فُصِّلَتْ: 53).

كون غاية في الإبداع والإعجاز

         تَقِفُ البشريةُ مذهولةً أمامَ كونٍ غايةٍ في الإبداع والإعجاز والإتقان، فمراكز البحوث تدرس وتكشف لنا كل يوم عجيبة من عجائب هذا الكون، والأقمار الاصطناعيَّة تجوب الفضاء، تستطلع كُنهَه، والغواصات تبحر في عمق المحيطات، فترى العجب العجاب، وما يزال الحقُّ -سبحانه- يكشِف للناس شيئًا من أسرار هذا الكون وآياته، وباهرِ صَنعَتِه في كل أمة ومكان، وفي كل عصر وزمان، لتقوم الحجةُ، وتظهَرَ المحجةُ إلى قيام الساعة.

عظمة الأرض

         أما الأرض فيرى كلُّ مَنْ مشى عليها عظمةَ خَلْقِها، سهولها، مهادها، مدِّها، استقرارها، أنهارها، عيونها، جبالها الشامخة الراسية، وهوائها النقيّ، الذي به تنتعِش الأنفاسُ، ولو تعطَّل لحظاتٍ لعطبت الحياةُ وفني الخلقُ، لكنَّها رحمة الله التي تَحُفُّنا، وتحفظنا في يقظتنا ونومنا، ذلك ظاهرُ ما نرى، فكيف بباطن ما لا نراه، وهو أكثر إبداعًا وإعجازً؟!

رحمة اللهِ بحفظ الأرض واستقرارها

         ولكي نُدرِكَ رحمةَ اللهِ بحفظ الأرض واستقرارها، انظر إلى أثر الزلازل والأعاصير والفيضانات، التي تَحدُث للحظات، ثم تَأَمَّلْ ثباتَ الأرض على مدار الحياة كلِّها، وعبرَ العصور وتعاقُب الأجيال، مَنِ الذي أَرسَاها، لكيلا تميد، وثبَّتَها حتى لا تضطربَ؟ هذه الزلازلُ والأعاصيرُ والفيضاناتُ جاريةٌ في نظام سُنَن الله في الكون لحكمةٍ لا نعلمُ كُنهَها، وهي رحمةٌ من رب العالمينَ، ولو ظهَر للخَلق خلافُ ذلك، وقد يطلع العلم على طرف من أسبابها وأسرارها، والعلم مهما بلغ مداه فهو قاصر، والعالم مهما اشتد ذكاؤه فهو مخلوق ضعيف، قال الله -تعالى-: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}(الْإِسْرَاءِ: 85).

إسقاطُ هذه الأحداثِ على قومٍ بعينِهم

     وإسقاطُ هذه الأحداثِ على قومٍ بعينِهم، في زمنٍ بعينِه على أنَّها عقوبةٌ رجمٌ بالغيب، وافْتِئَاتٌ على الشرع، فقد يكون البلاءُ تنقيةً، أو تطهيرًا، أو اصطفاءً وتكريمًا، وقد تجتمع كلُّها، والبلاءُ له صنوفٌ وأحوالٌ، فقد يُبتلى أقوامٌ بأشدَّ مما ذُكر، مِنْ فقدِ الأمنِ، وعلوِّ صوتِ الرصاصِ في الحروب، وتفشيِّ الظلمِ، واشتدادِ القتلِ والأوبئةِ والأمراضِ، ولا شكَّ أن هذه الأحداث من المصائب العظيمة بلاء على من نزلت بهم، وابتلاء وتمحيص لغيرهم من المسلمين، ممن كان مقتدِرًا، فبقيت يده مغلولة إلى عنقه، ومن ملك ما لا فلم يبذل، وابتلاء بمقدار الرحمة بين المسلمين، ومعيار الأُخُوَّة في النفوس، تلك فاجعة أليمة، ومصيبة عميقة، تتجاوز الأضرارَ الماديَّةَ إلى الآثار النفسيَّة والعلل الجسديَّة، وحين نرى الجثامين المتناثرة، والبيوت المهدَّمة، والأجساد المنهكَة، والأطفال والأُسَر بلا مأوى، مع ما يقاسيه بعضهم من موت عزيز أو والد أو ولد، أو تراه وحيدًا يشكو إلى ربه فقد عائلته، مع تفاقهم الأوبئة والأمراض، فإنَّ واجبَ الوقت الذي لا محيدَ عنه، ولا يتقدَّمُه غيرُه في مثل هذه الأحوال النصرةُ والدعمُ والمؤازرةُ والإغاثةُ، وتقديمُ كلِّ ما يمكنُ من مواساةٍ بالكثير والقليل، الواجبُ استيعابُ آلامِ الذين يئنُّون، وتهدئة روع النفوس المثقَلة بالجراح، ورفعُ الهِمَم، وشَحْذ المعنويات، والكلمةُ الطيبةُ التي تكون بَلسَمًا يُضَمِّد الجراحَ ويمسحُ الأحزانَ، النابعة من قِيَم التراحم والتضامُن والتكافل بين المسلمين.

الصبر والاحتساب

         كل حي سيموت، لكنَّ الذي ابتلي وعانى صنوفَ البلايا، واشتدَّت مصيبتُه فصبَر واحتسَب فأجرُه أعظمُ، وجزاؤُه أجزلُ، ورحمةُ اللهِ تكتنِفُه، مع كل ما يُرجى له من سموِّ المقامِ في الدرجات العُلَا عندَ مَلِيكٍ مُقتَدِرٍ، دموعُه التي تنساب على وجنتيه نورٌ له في قبره، وحزنُه الذي يعتصر بين جنبيه، على فقد عزيز سيجازى به فرحًا وحُبورًا وسرورًا، في جنات الخلد، وأسرته التي فقدها سيلتقي بهم في جنات عدن، على سرر متقابلين، {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}(الْحِجْرِ: 48)، وفي الحديث: «المقتول في سبيل الله شهيد، والمطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحبُ ذاتِ الجنبِ شهيدٌ، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك