رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 21 أغسطس، 2023 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – وصـايا لصـلاح الأبنــاء ونيل برهم

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 24 محرم 1445ه، الموافق 11 أغسطس 2023م، بعنوان: (وصايا لصلاح الأبناء ونيل برهم) لإمام الحرم المكي الشيخ: (ماهر المعيقلي)، الذي بين في بداية خطبته أنَّ بقاء المرء في الدنيا له أمدٌ محدودٌ، وأجَلٌ معدودٌ، والعمرُ قصيرٌ، والانتقال إلى الدار الآخرة قريب، فمِنَ الناسِ من يموت، فينقطع عمله وتطوى صحيفته، ومنهم مَنْ يبقى أثرُه ويدوم عملُه؛ فيَثقُل ميزانُه بما قدَّم من عمل، وبآثار تبقى له بعد انقطاع الأجل، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(يس: 12).

  وإنَّ من الآثار التي لا ينقطع أجرُها بانقطاع الأجل، الولد الصالح؛ فالولد الصالح من خيرة ما يدَّخِرُه المرءُ لنفسه، في الدنيا والآخرة؛ فأولادُ الرجلِ من كسبه، وعملُهم الصالحُ من عمله؛ ففي صحيح مسلم: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».

زينةُ الدنيا وسرورُها

      الولدُ الصالحُ زينةُ الدنيا وسرورُها، وبهجتُها وفرحتُها، تحبُّه ويحبُّك، وتأنَس به ويأنس بكَ، وتأمُرُه فيبرّك، وإذا كَبِرَ سِنُّكَ، ودقَّ عَظمُكَ، عطَف عليكَ، وأعانَكَ على أمر دينك ودنياك، وكان خيرًا لكَ في حياتِكَ وبعدَ مماتِكَ، وفي مسند الإمام أحمد، قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ».

طلب الولد الصالح

     ثم بين الشيخ المعيقلي أنَّ طلبَ الولد الصالح، يبدأ منذ اختيار الزوجة الصالحة، فالمرأة تُنكَح لأربع: لمالها ولحسبها، ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداكَ، وإنَّ صلاحَ الأبناء يكون بغرس التوحيد في قلوبهم، ومحبة الله، والخوف منه، ورجاء رحمته، وتعليمهم بأن الصلوات الخمس، من أعظم أسباب صلاح النفس، فالصلاة عماد الدين، وسببُ مرضاةِ ربِّ العالمينَ، يجب على الوالدين العنايةُ بشأنها، وحثُّ الأبناء عليها، وهم أبناء سبع سنين، والسؤال عن أدائها، وتعليمهم أحكامَها، لتتعلَّق بها قلوبُهم، وتعتاد عليها نفوسهم، فيحافظوا عليها طيلة حياتهم.

صلاح الوالدين

     إن الولد الصالح يُطلَب بصلاح الوالدين، فصلاحهم -بإذن الله- سببٌ لصلاح أبنائهم، قال -سبحانه-: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}(الْكَهْفِ: 82)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «حَفِظَهُما اللهُ بصلاح والدهما»؛ فعلى الآباء والأمهات، أَنْ يَكُونوا قُدْوَةً حَسَنَةً للأبناء والبنات، وخاصةً في مرحلة الطفولة؛ لأنَّها الأساس الذي يُبنى عليه بقية حياتهم، وتتكوَّن فيها سلوكياتهم، وهي زمن غرس القيم الفاضلة، والأخلاق النبيلة.

التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم 

      وَالخيرُ كلُّ الخير، في التأسِّي بالْمُرَبِّي الْأَعظم، بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -؛ فهديُه خيرُ الهدي، وسنتُه أفضلُ السننِ، فَقَدْ كان تعامُلُه - صلى الله عليه وسلم - مع الأطفال، مبنيًّا على الشفقة والرحمة، مُحِبًّا لهم، يَحْنُو عَلَيْهِمْ، يَلِينُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَيُشْعِرُهُمْ بِحُبِّهِ، وَيُعَبِّرُ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ، ففي الصحيحين: جَلَسَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ -رضي الله عنها وأرضاها-، فَقَالَ: «أَثَمَّ لُكَعُ، أَثَمَّ لُكَعُ»، يعني: الحسن، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: «اللهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّهُ وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُ»، وفي سنن ابن ماجه: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بعض أصحابه إِلَى طَعَام، فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي السِّكَّةِ، فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَامَ الْقَوْمِ، وَبَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَفِرُّ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَيُضَاحِكُهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى أَخَذَهُ فَقَبَّلَهُ، وقال  صلى الله عليه وسلم  لرجلٍ كان لا يُقبِّل أولاده: «أَوَ أَمْلِكُ لَكَ، أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ»(رواه البخاري ومسلم). وحتى في لحظات الصلاة، والوقوف بين يدَي الله، يتحمل - صلى الله عليه وسلم - لَعِبَ الأطفال ولَهوَهم؛ مراعاةً لمشاعرهم، وفي مسند الإمام أحمد: خرَج النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، وَهُوَ يحَمِل الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ، فلما صلى أطال في إحدى سجداته، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ هَذِهِ، سَجْدَةً قَدْ أَطَلْتَهَا، فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ».

مِنْ هدي النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في التربية

      والحديث مع الأطفال فيما يخصهم، وإدخال السرور عليهم، مِنْ هدي النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في التربية؛ ففي الصحيحين: عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ»، قال أنس: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ، مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -»، ومن رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالصغار، أنَّه كان يزور الأنصارَ، ويُسلِّم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم، ويدعو لهم بالرزق والبركة.

الإحسان إلى الصغار

     إنَّ الإحسان إلى الصغار، ومراعاة مشاعرهم، والصدق في التعامُل معهم، من أسباب صلاحهم، وممَّا كان يأمرُ به النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ففي سنن أبي داود: عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟»، قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ»، بل سلَكَ - صلى الله عليه وسلم - في تقديره للصغار مذهبًا بعيدًا؛ ففي مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -، جلس ابن عباس -رضي الله عنهما- عن يمينه، وكبار الصحابة عن يساره، فأُتِي بشراب فَشَرِبَ منه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى منه ثم قَالَ: «يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ الأَشْيَاخَ»، فَقَالَ الغلامُ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. (رواه البخاري).

العدلُ بين الْأَبناء

       والعدلُ بين الْأَبناء، حقٌّ من حقوقهم، وسببٌ لصلاح قلوبهم، وغرْس الْمحبّة بيْنَهم؛ فلذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، يحث على العدل بين الأبناء، ولو كان ذلك في أدق الأشياء؛ ففي (صحيح مسلم): عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي، فَقَالَ: «أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟»، قَالَ: لا. قَالَ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي»، ثُمَّ قَالَ: «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟»، قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَلا إِذًا».

تربية الأبناء على الصلاح

      مَا أَجْمَلَ أَنْ نربي أبناءنا على الصلاح، والسير معهم في طريق الفلاح، بكل رحمة وحِلْم ورفق! فالصغير لا يدرك الواجبات والحقوق، والقِيَم والمعاني، والأصول والمبادئ، وإنَّما يتلقَّى ذلك شيئًا فشيئًا عبرَ سنين حياته، ولا يعني ذلك عدم الاهتمام بتصحيح الأخطاء، ولكن يجب أن يكون التصحيح بأسلوبٍ يَبنِي ولا يهدِم، ويؤدِّبُ ولا يُثرِّب، ومَنْ نظَر في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجَد حرصَه على تعديل السلوك، بأحسنِ أسلوبٍ، لا إهانةَ فيه ولا تجريحَ، ولا لومَ ولا توبيخَ؛ فهذا عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ - رضي الله عنه -، يذكر موقفًا له مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيَقُولُ: «كُنْتُ غُلامًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا غُلامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ»، قال: «فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ»(رواه البخاري)، وشواهد السيرة العطرة في هذا الباب كثيرة.  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك