رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 5 فبراير، 2024 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – نعمة العقل وواجب المسلم نحوها

  • العاقلُ لا يُقدِّمُ عقلَه على النقل ولا يُخضِعُ الشرعَ تبعًا لرأيه فلا يَسلَمُ إسلامُ العبدِ إلا بالتسليمِ التامِّ لنصوص الوحيينِ الشريفينِ والإذعانِ لهما

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 14 رجب 1445 الموافق 26 يناير 2024 بعنوان: {نعمة العقل وواجب المسلم نحوها}، للشيخ بندر بليلة الذي أكد في بداية خطبته أن العقل أصلُ المعرفة، ومادةُ الفَهْم، ويَنبوعُ العِلمِ، ومَرقاةُ الأدبِ، به تَظهرُ الحقائقُ، وتَلُوحُ الخَفِيَّاتُ، وتُوزَنُ الأمورُ، وتُكتسَبُ الفضائلُ، وهو نعمةٌ يُنعِمُ اللهُ بها على مَن أراد كرامتَه مِن عباده، وقَضى له بحُسْن العاقبةِ في مَعادِه، قال -تعالى-: {إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}(طه: 54)، وقال -تعالى-: {إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(الرَّعْدِ: 4)، وقال -تعالى-: {هَلْ في ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}(الْفَجْرِ: 5)، أي: لذي العقل والنُّهى.

        والعقلُ نورٌ في القلبِ كنورِ البصرِ في العينِ، يَنقُصُ ويزيد، ويذهبُ ويعود، يُدرِكُ به المرءُ الأشياءَ على ما هي عليه مِنْ ماهيةِ مَبانيها، وصحةِ مَعانيها، ويُصِيبُ الرأيَ الصوابَ، ويُدركُ البيانَ، ويمتنعُ عمَّا لا يَجْمُل؛ فهو في سَداد ورَشاد وإمداد، قال عمرُ -رضي الله عنه-: «أصلُ الرجلِ عقلُه»، وقيل لعبدِ الله بنِ المباركِ -رحمه الله-: «ما خيرُ ما أُعطيَ الرجلُ؟ قال: غريزةُ عقلٍ»، وقال الحسنُ البصريُّ -رحمه الله-: «ما تمَّ دينُ عبدٍ قطُّ حتى يَتِمَّ عقلُه».

للعقل أمارات وصفات

        للعقلِ أماراتٌ على صاحبه، وصفاتٌ تدُلُّ عليه؛ فأولُ صفاتِ العاقلِ العقلُ عن الله --تعالى-- في أمره ونهيه، والإيمانُ به، والاتباعُ لرُسُله، قال -تعالى-: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}(الرَّعْدِ: 19)، وقال -تعالى- عن أصحاب النار عِياذًا به منها: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(الْمُلْكِ: 10).

من صفات العقلاء

       والعاقلُ لا يُقدِّمُ عقلَه على النقل، ولا يُخضِعُ الشرعَ تبعًا لرأيه، فلا يَسلَمُ إسلامُ العبدِ إلا بالتسليمِ التامِّ لنصوص الوحيينِ الشريفينِ، والإذعانِ لهما، والعملِ بهما، قال الزُّهريُّ -رحمه الله-: «مِنَ اللهِ الرسالةُ، وعلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - البلاغُ، وعلينا التسليمُ»، وقال ابنُ القيم -رحمه الله-: «كلُّ مَنْ له مِسْكةٌ مِنْ عقلٍ يَعْلَمُ أن فسادَ العالَمِ وخرابَه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل».

التأمل في خلق الله

      والعاقلُ يتأمُّلُ في مُلك الله وملكوته، ويتدبرُ آياتِه ودلائلَ قُدرته، قال -تعالى-: {إِنَّ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(الْجَاثِيَةِ: 3-5).

العاقلُ لا يُؤثِرُ اللذةَ العاجلة

       والعاقلُ لا يُؤثِرُ اللذةَ العاجلة، ولا يُقدِّمُ المتعةَ الزائلةَ؛ لأنَّه يعلمُ أن الدنيا ظِلُّ غَمامٍ، وحُلُمُ مَنامٍ، لا تَبقى على حالة، ولا تخلُو من استحالة، السكونُ فيها خَطَرٌ، والثقةُ بها غَرَرٌ، والإخلادُ إليها مُحالٌ، والاعتمادُ عليها ضلالٌ، قال -تعالى-: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(الْقَصَصِ: 60)، وقال -تعالى-: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(الْأَنْعَامِ: 32).

العاقل حسنُ السمتِ

        ومِنْ صفاتِ العاقلِ حُسْنُ السمتِ، وطولُ الصمتِ، وعدمُ الابتداءِ بالكلام إلا حينَ السؤالِ، وعدمُ الجوابِ إلا عندَ التثبُّتِ، والعاقلُ لا يَستحقرُ أحدًا، ولا يَخفى عليه عيبُ نفسِه؛ لأنَّ مَنْ خَفِي عليه عيبُه خَفِيت عليه محاسنُ غيرِه، والعاقلُ إذا عَلِمَ عَمِلَ، وإذا عَمِلَ تَواضَعَ، وإذا نظرَ اعتبرَ، وإذا صَمَتَ تفكَّر، وإذا تكلَّم ذَكَرَ، وإذا أُعطيَ شَكَرَ، وإذا ابتُليَ صَبَرَ، وإذا جُهِلَ عليه حَلُمَ، وإذا سُئِلَ بَذَلَ، وإذا نَطَقَ صَدَقَ.

العقلُ نعمة كُبرى من الله

       العقلُ نعمةٌ من الله كُبرى، ومِنحة عُظمى، حقيقةٌ بشُكرِ الله وحَمْده، ومِنْ شُكرِه -سبحانه- حفظُه ممَّا يُكدِّرُ صَفوَه وصَفاءَه، ويُعكِّرُ نورَه ونقاءَه، ومِنْ ذلك الهوى؛ فهو للعقلِ مُضادٌّ، وللخيرِ صادٌّ، وهو مَرْكَبٌ ذميمٌ، يسيرُ بالإنسان إلى ظُلُماتِ الفتنِ، ومَرْتَعٌ وخيمٌ، يُقعِدُه في مَواطِنِ المحنِ، قال -تعالى-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(الْقَصَصِ: 50)، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «أخاف عليكم اثنتين؛ اتباع الهوى، وطول الأمل؛ فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة».

واعْلَمْ بأنكَ لن تفوزَ ولن تَرَى

                                                                         طُرُقَ الرَّشادِ إذا اتَّبَعْتَ هَواكَا

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك