رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 1 أغسطس، 2023 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – محاسن الفطرة السوية ومساوئ الفِطَر المنتكسة

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 19 ذي الحجة 1444هـ، الموافق 7 يوليو 2023 م بعنوان: (محاسن الفطرة السوية ومساوئ الفطر المنتكسة) لإمام الحرم المكي الشيخ فيصل بن جميل غزاوي، وقد اشتملت الخطبة على عدد من العناصر، كان أهمها: الفطرة السوية التي فطر الله عليها خلقه، والإسلام ملة إبراهيم -عليه السلام-، وحيل شياطين الإنس والجن لتغيير فطرة خلق الله، وبيان محاسن فطرة الله التي فطر الناس عليها وقبح مخالفتها، وضلال من يعتدي على القرآن الكريم والنبي الأمين - صلى الله عليه وسلم .

      أكدت الخطبة أنَّ اللهَ -تعالى- فَطَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، يَوْمَ أخْرَجَهم مِن ظَهْرِ آدَمَ كالذَّرِّ، وأشْهَدَهم على أنْفُسِهِمْ أنَّهُ رَبُّهم وآمَنُوا بِهِ، فَمَن كَفَرَ فَقَدْ غَيَّرَ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، قال -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(الرُّومِ: 30)، ويَشْهَدُ لِهَذا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطْرَةِ، فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرانِهِ أوْ يُمَجِّسانِهِ...»، وفي الحديث القدسي: «إنِّي خَلَقْتُ «عِبادِيَ حُنَفاءَ، فَجَاءَتْهُمُ الشَّياطِينُ فاجْتالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ».

الْإِسْلَام دين الحنيفيةِ السمحةِ

     لقد بعَث اللهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بِدِين الْإِسْلَامِ الحنيفيةِ السمحةِ، الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ، {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(الْأَنْعَامِ: 161)، وإبراهيم -عليه السلام- هو النَّبِيُّ الَّذِي يُعَظِّمُهُ أهْلُ الشَّرائِعِ والدِّياناتِ، وقد زعمت كُفَّارُ قُرَيْشٍ أنَّهم على دِينِهِ، ونسبَتْ إليه ضلالاتِهم كذبًا وزورًا، فَرَدَّ اللهُ -تعالى- عَلَيْهِمْ بِقَوْلِه: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(الْبَقَرَةِ: 135)، فكان -عليه السلام- بريئًا من الشرك وأهله.

أنواع متعددة لتغيير خلق الله

     ممَّا توعَّد الشيطانُ به بني آدم، تغييرُ فطرتهم التي خُلِقُوا عليها، فقد حكَاه -سبحانه- في قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}(النِّسَاءِ: 119)، وهناك صُوَر متعددة لتغيير خلق الله، إضافةً إلى تغيير دين الله، منها: قطع آذان الدوابِّ، وتغييرُ الخِلقة الظاهرة بالوَشْمِ، والنمص، والتفلُّج للحُسن، وما إليها من التغيير والتشويه الذي حرَّمَه الإسلامُ، ومن ذلك أيضًا فعلُ بعض القبائح والرذائل، كالتخنُّث، وعمل قوم لوط، والسِّحاقِ، والدياثة.

وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له

     ومن تغيير خلق الله وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له؛ فالله -تعالى- خلق الشمس والقمر والأحجار والنار، وغيرها من المخلوقات؛ ليعتبر بها الإنسان وينتفع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة تعبد من دون الله.

تغيير خلقِ اللهِ إضلالٌ من الشيطان

     إنَّ تغييرَ خلقِ اللهِ إضلالٌ من الشيطان، وتَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ بِالطُّغْيَانِ، وَقَوْلٌ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وممَّا يدخُلُ في هذا اعتقادُ النفع والضُّر في غير الله -تعالى-، كمَنْ يعتقِد في حَلقَةٍ، أو تميمةٍ، أو حجرٍ، أو شجرةٍ، أو نحوِه، وأنَّ ذلك سببٌ في جلب نفع أو دفع ضُرٍّ، وهناك مَنْ زيَّن له الشيطانُ سُوءَ عملِه، فأبعدَه عن فطرته السوية، وأوقَعَه في الشرك بالله وأفعال الجاهليَّة، وصْرفِ شيءٍ من العبادة لغير الله باري البرية، كالدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، والنذر، والذبح، والطواف بغير الكعبة، والتوكل، والخوف، والرجاء، والحب، ونحوها، أو اعتقاد أن أحدًا دونَ الله يَعلَم الغيبَ، أو أنَّ هناك سوى الله مَنْ يُدبِّر أمرَ العالَم، أو يتصرَّف في الكون.

فطرة الإسلام

     ومعلومٌ أن فطرة الإسلام فطر الله الناس عليها، هي السلامة من الاعتقادات الباطلة، والقَبول للعقائد الصحيحة، كما أن من أعظم فضائل التوحيد أنَّه يُحرِّر العبدَ من رِقِّ المخلوقين والتعلق بهم، وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم؛ فيكون متعبِّدًا لله -تعالى- وحده، لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إيَّاه، ولا ينيب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه؛ وبذلك تتحقق عبوديته لله -تعالى- وحده، ومع هذا كله فهناك من قد بلغ في الجهل غايته ومنتهاه، ممن ينتمي إلى الإسلام الذي ارتضاه، فتجده يدعو غير الله، ويقول مخاطِبًا إليه: «أشكو إليك ذنوبي، أو نقص رزقي، أو أشكو إليك فلانًا الذي ظلمني»، أو يقول: «أنا ضيفك، أنا في جوارك، أو أنت تجير من يستجير، أو أنت خير معاذ يستعاذ به، أو ارزقني الولد، أو أغثني، أو فرج كربتي»، أو يقول إذا عثر: «يا جاه فلان، أو يا سيدي الشيخ فلان»، أو نحو ذلك من الأقوال التي فيها تعلق وتوجه إلى غير الله، وبعضهم يكتب على أوراق ويعلقها عند القبور، وكل هذه الأفعال مما يضاد التوحيد، وهي تنافي العقل الصحيح ومقتضى الفطرة.

أين ذهبت عقول هؤلاء؟

     فأين ذهبت عقول هؤلاء؟ وأين عبادتهم لربهم وإخلاصهم له؟ أليس هو الذي خلقهم؟ أليس هو الذي يدبر أمورهم؟ أليس هو الذي يرزقهم؟ أليس هو الذي يقضي حوائجهم؟ أليس هو الذي يكشف الضر عنهم؟ أليس هو الذي ينجيهم في الشدائد؟ قال الله -جل في علاه-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فَاطِرٍ: 13-14)، وقال -تبارك وتعالى-: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}(الزُّمَرِ: 38)، وقال -جل ثناؤه-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا}(الْإِسْرَاءِ: 56).

اللهَ -تعالى- خلَق عبادَه على الفطرة السوية

     إنَّ اللهَ -تعالى- خلَق عبادَه على الفطرة السوية، وجعلَهم مجبولين على محبة الخير وإيثاره، واستحباب المحاسن والفضائل، وكراهية الشرّ ودفعه واستهجان القبائح والرذائل، لكن الشيطان صرَفَهم عن الدين الحق؛ فجعَلَهم يُخالِفون سننَ الله وشرائعَه وأحكامَه، وينحرفون عمَّا تقتضيه العقولُ السليمةُ والفِطَرُ الكريمةُ.

الله جعل البشرَ صنفينِ ذكرًا وأنثى

     ومن أمثلة ذلك أن الله -تعالى- الذي خلَق البشرَ، وجعَلَهم صنفينِ ذكرًا وأنثى، قد قرَّر فقال: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}(آلِ عِمْرَانَ: 36)، ففرَّق بينَهما وهو الأعلمُ بالحِكَمِ والمصالح -سبحانه-، وجعَل لكل منهما خصائصَه وسماتِه، ثم يأتي مَنْ يُخالِف فطرتَه، ويُعانِد أمرَه فيسعى في تغييرِ جنسِه الطبيعيِّ، بأَنْ يتحولَ الرجلُ إلى امرأةٍ، وتتحولَ المرأةُ إلى رجلٍ، والنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ فيما دونَ ذلك؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «لَعَنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النِّسَاءِ».

 
الزواج الإنسانيّ شريعة كونية

      كما أنَّ اللهَ -تعالى- جعَل الزواجَ الإنسانيَّ بين الرجل والمرأة شريعةً كونيةً، لكنَّ الشيطان يَعمِد إلى أن يتعدَّى العبدُ حدودَ الله، ويرتكبَ ما تَنفِر منه الطباعُ السليمةُ، حتى بلغ الحالُ بأولياء الشيطان أن يَتدَاعَوْا لطمس الفطرة، وإفساد الخلقة؛ بفرض قوانين لتشريعِ زواجِ الرجلِ بالرجلِ، والمرأةِ بالمرأةِ، والتزاوجِ مع الحيوانات، والتحريض على الانحراف الجنسيّ والشذوذ، وكلِّ أنواع الإباحية، وجعلوه تطوُّرًا وحضارةً، واتخذوا موقفًا عدائيًّا ممَّن أنكر ذلك وعَدُّوه متخلفًا متطرفًا، فانظروا كيف ارتكسَتْ فِطَرُهم، واختلَّت مفاهيمُهم؛ فحارَبوا الطهرَ والفضيلةَ، وعاقَرُوا الفجورَ والرذيلةَ، وبلغوا الغايةَ في الانحطاط الأخلاقي، والانهيار القِيمي، والهبوط إلى الدَّرْك البهيمي؛ حتى فاقوا ما كان عليه قومُ لوط، الذين أَتَوُا الفاحشةَ، التي لَمْ يَسْبِقْهُمْ بها أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَا غَيْرِهِمْ، فعاجَلَهم اللهُ -عز وجل- بعقوبةٍ لَمْ يُعاقِبْ بِها أحَدًا غَيْرَهُمْ، وجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِن أنْواعِ العُقُوباتِ بَيْنَ الإهْلاكِ، وقَلْبِ دِيارِهِمْ عَلَيْهِمْ، والخَسْفِ بِهِمْ، ورَجْمِهِمْ بِحِجارَةٍ مِنَ السَّماءِ؛ وذَلِكَ لِعِظَمِ مَفْسَدَةِ هَذِهِ الجَرِيمَةِ الشنعاء، التي غيَّرُوا بها الفطرةَ وقلبوا الحقائقَ، وليس ببعيدٍ أن تُصِيب نقمةُ الله ويَنزلَ عذابُه الشديدُ، بمن تشبَّه بهم، وفعَل فعلَهم، واتَّبَع آثارهم، كما قال -سبحانه-: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}(هُودٍ: 83)، فلا تأتي مخالفةُ الفطرةِ التي خلَق اللهُ الناسَ عليها إلا بالويل والفساد والدمار.

منتكِسو الفِطَر المبدِّلون لخلق الله

      إنَّ هؤلاء المفترين منتكِسِي الفِطَر، المبدِّلين لخلق الله، قد أفلَسُوا روحيًّا وانهارت عندَهم كلُّ القِيَم الإنسانيَّة والحضاريَّة، وأصبحوا يُعانون من أزمات أخلاقيَّة، ومشكلات اجتماعيَّة، فلم يَرُقْ لهم أن يبقى المسلمون على أخلاقهم وآدابهم وسلوكياتهم، المستقاة من الوحي المطهَّر والمتَّفِقة مع الفطرة السليمة، فقام بعضُهم باستفزاز مشاعر المسلمين في كل مكان واستثارةِ غَضبَتِهم، بشنِّ حملاتٍ محمومةٍ، وأفعالٍ عدائيةٍ مُعلنةً متكررةً، ضدَّ العالَم الإسلاميّ؛ بدعوى حرية الرأي، وما حرقُ المصحفِ الشريفِ وامتهانُه وتدنيسُه، والنَّيلُ مِنَ النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، والسخرية منه، والطعن فيه، والتشكيك في سُنَّتِه إلَّا صورة مِنْ صُوَر ذلك؛ فأظهَرُوا بذلك حقدَهم الدفينَ، ضدَّ المسلمين، وأجَّجُوا نارَ الكراهية والعنف، لكنَّها كلَّها -بفضل الله- محاولاتٌ يائسةٌ، في الصد عن سبيل الله، وتشويه صورة الإسلام، لا تَلبَث أن تعودَ عليهم بالخسارة والوبال، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(يُوسُفَ: 21).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك