رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 23 أكتوبر، 2023 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – فلسطين قضية كل مسلم

  • كيف لا يرتبِطُ المُسلمون بفلسطين وهي أرضُ الأنبياء والمُرسَلين؟! فعلى ثراها عاشَ إبراهيمُ وإسحاقُ ويعقوبُ ويُوسفُ ولُوطٌ ودوادُ وسُليمانُ وصالِحٌ وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وغيرُهم كثيرٌ
  • مسؤوليَّة صلاح أحوالِ الأمة والخُروجِ بها مِن مآزِقِها مسؤوليَّةُ المُسلمين جميعًا في خُطًى حثِيثَة في العقيدة والعلم والعقل والحِكمة ليتحقَّقَ للأمة وعدُ الله الذي لا يتخلَّف
 

من خطب الحرم المكي الخطبة التي ألقاها الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس وكانت بعنوان: (فلسطين قضية كل مسلم)؛ حيث أكد الشيخ السديس أنَّ شريعة الإسلام جاءَت بأعظَم فُروضِها بعد التوحيد، وهي: الصلاة مُتوجَّهًا بها إلى بيتِ المقدِس، فكان أولَ قِبلةٍ للمُسلمين، فصلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ثلاثةَ عشر عامًا بمكة، وبعد الهِجرة إلى المدينة أيضًا سبعةَ عشر شهرًا؛ حتى نزلَ القرآنُ الكريمُ آمرًا بالتوجُّه إلى المسجِد الحرام، الذي ارتبَطَ ارتِباطًا أزلِيًّا إيمانيًّا وتأريخيًّا ورُوحيًّا بالمسجِد الأقصَى الشريف، فهما أولُ مسجِدَين وُضِعَا في الأرض لعبادة الله وتوحيدِه.

       وفي «الصحيحين» من حديث أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ - رضي الله عنه - أنه قال: قُلتُ: يا رسول الله، أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرض أولًا؟ قال: «المسجِدُ الحرامُ»، قُلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «المسجِدُ الأقصَى»، قُلتُ: كَم بينَهما؟ قال: «أربعُون سنة» (متفق عليه).

أرضُ المحشَر والمنشَر

       قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «بدأ الخلقُ والأمرُ مِن مكة المُكرمة، وجعلَ الله بيتَ المقدِسِ وما حولَه محشَرَ خلقِه، فإلى بيتِ المقدِسِ يعُودُ جميعُ الخلقِ، وهناك يُحشَرُ الخلقُ، ولذا جاءَ في الحديث: أنها أرضُ المحشَر والمنشَر؛ فهو البيتُ الذي عظَّمَته المِلَل، وأكرَمَته الرُّسُل، وتُلِيَت فيه الكُتُبُ الأربعةُ المُنزَّلةُ مِن الله - عزَّ وجل -: الزُّبُور، والتوراةُ، والإنجيلُ، والقُرآنُ». وقال أيضًا: «ودلَّت الدلائِلُ المذكُورةُ على أن مُلكَ النبُوَّة بالشام، والحشرَ إليها، فإلى بيتِ المقدسِ وما حولَه يعُودُ الخلقُ والأمرُ، وهناك يُحشَرُ الخلقُ، والإسلامُ في آخر الزمان يكونُ أظهرَ بالشام، كما أن مكة أفضلُ مِن بيتِ المقدسِ».

الارتِباطُ الإيمانيُّ والتاريخيُّ

        إنه الارتِباطُ الإيمانيُّ والتاريخيُّ الذي جعلَه الله بين مواطِنِ النبُوَّة، وخيرِ المواضِعِ على بِساطِ المعمُورة، ولقد زادَ الإسلامُ هذا الارتبِاطَ وهذه الصَّلةَ قُوَّةً وعُمقًا؛ فقال نبيُّ الهُدى - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُشدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجِد: المسجدِ الحرام، والمسجدِ الأقصَى، ومسجدِي هذا» (متفق عليه)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الصلاةُ في المسجدِ الحرامِ بمائةِ ألفِ صلاةٍ فيما سِواه، وصلاةٌ في مسجدِي هذا بألفِ صلاةٍ، وصلاةٌ في المسجدِ الأقصَى بخمسمائة صلاةٍ» (أخرجه الطبرانيُّ بسندٍ صحيحٍ). وكيف لا يرتبِطُ بها المُسلمون وهي أرضُ الأنبياء والمُرسَلين؟! فعلى ثراها عاشَ إبراهيمُ وإسحاقُ، ويعقوبُ ويُوسفُ ولُوطٌ، ودوادُ وسُليمانُ، وصالِحٌ وزكريا ويحيى وعيسى - عليهم السلام -، وغيرُهم كثيرٌ مِمَّن لم تُذكَر أسماؤُهم مِن أنبياء بنِي إسرائيل.

فتحُ بيتِ المقدِس

        وفي السنة الخامسة عشرة للهِجرة فتحَ المُسلمون بيتَ المقدِس، وقال البطارِقةُ: لا نُسلِّمُ مفاتِيحَ بيتِ المقدِس إلا للخليفة عُمر بن الخطَّاب، فإنا نجِدُ صِفتَه في الكُتب المُقدَّسة، وجاء عُمرُ -  رضي الله عنه - مِن المدينة المُنوَّرة إلى بيتِ المقدسِ، وتسلَّم مفاتِيحَه، ولقد كتبَ التأريخُ بمِدادٍ مِن نُورٍ: أنه لم يهدِم صومَعَة، ولا كنيسَة، ولا معبَدًا، ولا دارًا، بل تركَ للناسِ دُورَ عبادتِهم، وكتبَ لأهل البلد عهدًا وأمانة، وأشهَدَ عليه، وشهِدَ التأريخُ أيضًا أن اليهود والنصارى عاشُوا أسعدَ فترةٍ في ظلِّ حُكم المُسلمين، ومارَسُوا عبادتَهم بحريةٍ لم يجِدُوها في ظلِّ أيِّ حُكمٍ آخر؛ فالإسلامُ دينُ الوسطيَّة والاعتِدال، والقِسطِ والشهادةِ على الناس، وليس دينَ التطرُّف والإرهاب، وليس فيه عِداءٌ إلا لمَن ابتَدَرَ أهلَه بالحربِ والعِداء.

قضيَّتُنا الإسلاميَّةُ الأولى

       التاريخُ للزمان مِرآة، وهو نافِذةُ الحاضِرِ على الماضِي، وسِجِلُّ الآنِي للآتِي، ولم يُبرِز التأريخُ قضيَّةً تجلَّت فيها ثوابِتُنا الشرعيَّة، وحقوقُنا التأريخيَّة، وأمجادُنا الحضاريَّة مِثلُ هذه القضيَّة، وهي قضيَّتُنا الإسلاميَّةُ الأولى التي لا يجِبُ أن تُنسَى في جديدِ القضايا والصِّراعات، إنها قضيَّةُ أُولَى القِبلَتَين، وثالِثُ المسجِدَين الشريفَين، ومسرَى سيِّد الثَّقَلَين، قضيَّةُ الأقصَى المُبارَك التي لا يجِبُ أن تظلَّ في قلبِ كلِّ مُسلمٍ، ولا يُقبَلُ التنازُلُ والتغاضِي والمُساوَمَةُ عليها يومًا مِن الأيام. وليس ما قامَت به قوات الاحتلال عبرَ التاريخ بخافٍ على أهل الإسلام، ولعلَّ ما شهِدَته الساحةُ الفلسطينيَّةُ على مدار الأيام الماضِية مِن أوضَحِ الدلائِلِ في شُبُوبٍ على سجِيَّةِ القَوم وما يُكِنُّونَه لأمَّتِنا ومُقدَّساتِنا، إنه لأمرٌ تبكِي له العيُون أسًى وأسَفًا، ولا مُساومَةَ البتَّة على شيءٍ مِن مُقدَّساتِنا، ولا تنازُلَ عن شيءٍ مِن ثوابِتِنا، لقد نكَأَت الأوضاعُ المُستجِدَّةُ الجِراحَ، فأينَ مِنَّا خالِدٌ وصلاحٌ؟! أيَطِيبُ لنا عيشٌ، ويهدَأُ لنا بالٌ، ويرقَأُ لنا دمعٌ، ومُقدَّساتُنا تئِنُّ، وقُدسُنا تُنادِي، وفِلسطينُنا تستنجِدُ، والأقصَى يستصرِخُ؟!

قلوبُنا تعتصِرُ حسرةً وأسًى

        أيُّها الإخوة المُرابِطُون على ثرَى فِلسطين الصامِدة، أرضِ العِزِّ والشُّمُوخ والفِداء، والتضحِية والإباء! لَكَم نُخاطِبُكم مِن المكان الذي يُمثِّلُ حلقَةَ الوَصلِ بين أبناءِ هذه الأمة، فواللهِ الذي لا إله إلا هو، إنه ليُرمِضُنا ويُقِضُّ مضاجِعَنا أن أقصانَا أسِيرٌ بأيدِي البُغاة الطُّغاة العُتاة، فما نذكُرُ الأقصَى -أقَرَّ الله الأعيُنَ بفكِّ أَسْرِه، وقُربِ تحريرِه- إلا وتعتصِرُ قلوبُنا حسرةً وأسًى على ما جرَى له ويجرِي مِن هؤلاء الصهايِنة المُعتَدين. فضيَّتُكم قضيَّتُنا، وهَزَّةُ انتِفاضتِكم هَزَّةُ قُلوبِنا، ومُصابُكم مُصابُنا، فصبرًا صبرًا - أيها المُرابِطُون -، لقد سطَّر جهادُكم المُبارَك بأحرُفِ العزِّ والنصرِ والشرفِ أروعَ النماذِج في التأريخ المُعاصِر. فبُورِكتُم مِن رِجالٍ، ولله درُّكُم مِن أبطالٍ، لقد أعَدتُم في الأمة الآمال، وصدَّقتُم الأقوالَ بالأفعَال، ثِقُوا بنصرِ الله لكم متى ما نصَرتُم دينَه، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47)، وهنِيئًا لكم بَذلُ الأرواح رخيصَةً في سبيلِ الله، ودُعاؤُنا مِن سُويدَاء القُلوبِ أن يتقبَّل الله شُهداءَكم، وأن يكتُبَ لمرضاكم وجرحَاكم عاجِلَ الشفاء والعافِية، ولا تيأسُوا مِن رَوحِ الله؛ فالنصرُ قادِمٌ -بإذن الله-، وإن الأمةَ لتتطلَّعُ إلى مراحِلِ العملِ والمنهجيَّة، والمواقِفِ والتأصِيلِ، فلم تعُد تُجْدِي الكلماتُ ولا التنظيرُ.  

مسؤوليَّةُ صلاح  أحوالِ الأمة

        وإن مسؤوليَّةَ صلاح أحوالِ الأمة والخُروجِ بها مِن مآزِقِها مسؤوليَّةُ المُسلمين جميعًا، في خُطًى حثِيثَة في العقيدة والعلم، والعقل والحِكمة؛ ليتحقَّقَ للأمة وعدُ الله الذي لا يتخلَّف، وإننا لنأمَلُ أن تكون مصائِبُ الأمة سحابةَ صَيفٍ، عما قريبٍ تنقشِع؛ فالنصرُ للإسلام وأهلِه، فليَقَرَّ المُسلمون بذلك عَينًا، ومِن الله وحدَه نستلهِمُ النصرَ والتمكينَ.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك