رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 26 سبتمبر، 2023 0 تعليق

خطبة الحرم المكي- طمأنينة المؤمنين وحيرة الملحدين وضلالهم

   

  • إنَّ وجودَ الرب سبحانه أظهرُ للعقول والفِطَر من ظهور الشمس وضياء النهار ومن لم يرَ ذلك في عقله وفطرته فليتَّهِم عقلَه وفطرتَه
  • الجهلُ بالدِّين هو التربةُ الخصبةُ لنشأة الإلحاد في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ زمانٍ وكُلَّما كان الدينُ الصحيحُ راسخًا كان الضلالُ أبعدَ
  • جوهرُ الدينِ ثابتٌ في النفوس لأنَّه مرتبِط بالطبيعة البشريَّة ومن هنا فلم توجَد أمةٌ من أممِ أهلِ الأرضِ بغيرِ دينٍ
 

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 23 ربيع الأول 1445هـ، الموافق: 9 سبتمبر 2023م، بعنوان: (طمأنينة المؤمنين وحيرة الملحدين) ألقاها الشيخ: صالح بن عبد الله بن حميد؛ حيث بين -في بداية خطبته- أنَّ هذه الدارَ خدَّاعةٌ غرَّارةٌ، والنفسَ بالسوء أمَّارةٌ، والشيطانَ يأمُر بالسوء والفحشاء، ويدعو إلى الخسارة، أملُ ابنِ آدمَ في هذه الدنيا طويلٌ، وعمرُه فيها قصيرٌ، ومَنْ تَمَّ أجَلُه انقطَع عملُه، وأسلَمَه إلى اللهِ أهلُه، وانقطعَتْ عنه المعاذيرُ، الأعمالُ جزاءٌ، فاحذروا العواقبَ، والدهرُ تاراتٌ فكونوا على حَذَرٍ، مَنْ لم يكن يومَه خيرًا من أمسه فهو مغبونٌ، ومَنْ لم يكن في زيادة فهو في نقصان؛ {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}(النِّسَاءِ: 77).

الإنسانُ بفطرته التي فطَرَه اللهُ عليها، وبخَلْقِه من الروح والجسد لا يُقنِعه علمٌ، ولا يَكفِيه متعةٌ، ولا يغنيه شِبِعٌ؛ لأنَّ فيه قلقًا واضطرابًا وخوفًا، فهو في حاجة شديدة إلى الطمأنينةِ والسكنِ والأمنِ. الإنسان -وحدَه- مِنْ بينِ جميعِ المخلوقاتِ يحتاج إلى سَنَدٍ يعتمد عليه إذا ألَمَّت به شدةٌ، أو حلَّت به كارثةٌ، أو واجَه ما يَكرَه، أو خابَ ما يرجو، أو وقَع ما يَحذَر. الإنسان -وحدَه- من بين المخلوقات هو الذي يُفكِّر في المبدأ، ويتأمَّل في المصير، ويَنظُر في الكون، ويُعلِّل الأحداثَ، الإنسانُ -وحده- هو الذي يتخِذ مواقفَ بحسبِ هذه النظراتِ والمدرَكاتِ، والأسباب والمسبَّبات، هذه الغريزة الدينيَّة المشتركة بين كل أجناس البشر، مَهمَا كان تعليمهم، ومهما كانت أُمِّيَّتُهم.

جوهرُ الدينِ ثابتٌ في النفوس

          جوهرُ الدينِ ثابتٌ في النفوس؛ لأنَّه مرتبِط بالطبيعة البشريَّة؛ ومن هنا فلم توجَد أمةٌ من أممِ أهلِ الأرضِ بغيرِ دينٍ، بل إن حاجةَ الإنسانِ إلى الدين أعظمُ من حاجتِه إلى الغذاء والدواء، إنها حاجةٌ تتصل بجوهر الحياة، وترتبط بسِرِّ الوجودِ. هل يكون في نظر العاقل أنَّ هذه الحياة ليست إلا أرحامًا تَدفَع، وأرضًا تَبلَع، والمصير هو التراب، يقول فيلسوفٌ ملحدٌ: «تشير المعابدُ، والكنائسُ، والمساجدُ في جميع الأعصار والأمصار، تُشِير ببنيانها وعظمتها وبهائها إلى أن حاجة الإنسان للدِّين حاجة قويَّة راسخة»، ويقول ملحِدٌ آخَرُ: «لقد وُجِدَتْ في التاريخ مدنٌ بلا حصونٍ، وَوُجِدَتْ مدنٌ بلا قصورٍ، وَوُجِدَتْ مدنٌ بلا مدارسَ، ولَكِنْ لم توجد مدنٌ بلا دُورِ عبادة».

الدينُ فطرةٌ مستقرةٌ

            الدينُ فطرةٌ مستقرةٌ في قلوب كل البشر، لا تحتاج في إثباتها إلى كبير جدل، أو طويل حوار؛ لأنَّها من البدهيات، فالإنسانُ مفطورٌ على العبادة، والاعتقاد، والإيمان؛ «كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرة» صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى الْمُلحِد يبحث عن اليقين والطمأنينة، ويَبحَثُ عن الغاياتِ العليا، وهذا كلُّه لا يكون ولا يوجد إلَّا في العقيدة الصحيحة، والدِّين الحق، والإيمان الصادق. الدين الحق -بفضل الله ومِنَّتِه- هو الذي يمنَح القوةَ عندَ الضَّعْفِ، والأملَ حينَ اليأسِ، والرجاءَ وقتَ الخوفِ، والطمأنينةَ عندَ القلقِ، والصبرَ في البأساءِ والضراءِ وحينَ البأسِ، ولا يكون للحياة طعمٌ، ولا يكون فيها أهدافٌ ساميةٌ إذا كان في القلب فراغٌ روحيٌّ، وخلاء من الدين، والدين الصحيح هو مصدر القِيَم والأخلاقِ والْمُثُلِ العليا والحياةِ المطمئنَّة.

حَيرةُ بعضِ العقولِ

         وحَيرةُ بعضِ العقولِ في الإيمان بالخالق -جل وعلا- ليس عن بُرهان، ولا عِلْمٍ، بل هذه الحَيرة -كما يقول أهل التحقيق والنظر-: هي عَرَضٌ مَرَضِيٌّ، ووسوسةٌ نفسيَّةٌ، وليست ظاهرةً فكريَّةً علميَّةً، وفي التنزيل العزيز: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}(الْأَعْرَافِ: 198)؛ فالحَيرةُ عندَ هذه العقولِ آفةٌ نفسيَّةٌ، وليست شُبهةً عقليَّةً.

الإلحادُ هو فَقْدٌ للإيمان

          الإلحادُ ليس إيمانًا، بل هو فَقْدٌ للإيمان؛ فالْمُلحِدُ ملحدٌ لأنَّه لم يستوعِبْ أدلةَ الإيمانِ، وليس لأنَّه يَملِكُ أدلةً على نفيِ الإيمانِ؛ فالذي في قلب الملحد هو غياب الإيمان بالله، وليس الإيمانَ بأن (لا إله)؛ المنكِر والمشكِّك والملحِد لا يستنِد إلى علمٍ صحيحٍ، ولا إلى عقلٍ صريحٍ، بل هو سلبيٌّ؛ فهو لم يستوعِب الأدلةَ، كما أنَّه لا يستطيع أن يُدلِّل على ما يعتقد؛ ولهذا قال بعضُ فلاسفتِهم: «لا يوجَدُ ملحدٌ حقيقيٌّ». والملحد لم يرتح ضميرُه؛ لأنَّه لم يُوافِق الفطرةَ، ولم تطمئنَّ سريرتُه؛ لأنَّه لم يُوافِق العقلَ، لقد طلَب الدليلَ على الواضحات؛ فهو كَمَنْ يريد أن يُنير ضوءَ الشمس بشمعة، اضطربت المعاييرُ عندَه فَتَاهَ في الواضحات عقلُه، يَنطَلِق من وَهْمٍ معدومٍ، ويَطمَعُ في عدمٍ موهومٍ، تأمَّلُوا ما قاله شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «كثير من العلوم الضروريَّة فطرية، فإذا طلَب المستدِلُّ أن يَستدِلَّ عليها خَفِيَتْ ووقَع في الشكِّ».

حقيقة الإلحاد

الإلحاد مكوَّن من الشك القلبي، والتَّشتُّت الفكري؛ فتراهم يقولون: ننطلق من الشك حتى نصل إلى اليقين، وهذا كمن يقول: نشربِ السمَّ لنجرِّبَ بعدَه الدواءَ. إنَّ وجودَ الرب -سبحانه- أظهرُ للعقول والفِطَر من ظهور الشمس وضياء النهار، ومن لم يرَ ذلك في عقله وفطرته فليتَّهِم عقلَه وفطرتَه، فكلَّ ما تراه بعينكَ، أو تسمعُهُ بأُذُنِكَ، أو تعقِلُهُ بقلبِكَ، هو دليلُكَ إلى ربك، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}(الطُّورِ: 35). إنَّ الملحِد ترَك ربَّه وعبَد الطبيعةَ، وعصى اللهَ وأطاع البشرَ، وهجَر الشرعَ واتَّبَع الوهمَ، وعاب على المتدينين الاتباعَ، وهو متعلِّق بما يقوله أهلُ الإلحادِ، واستنكَر في الدِّين مخاطَبةَ القلبِ، وهو حائرٌ فيمَنْ يخاطِب قلبَه، وادَّعى الثقةَ والجَزَعُ يملأ قلبَه، وظَنَّ اليقينَ، والحَيرةُ تملأ جوانحَه.

التربةُ الخصبةُ لنشأة الإلحاد

          الجهلُ بالدِّين هو التربةُ الخصبةُ لنشأة الإلحاد في أيِّ مكانٍ، وفي أيِّ زمانٍ، وكُلَّما كان الدينُ الصحيحُ راسخًا كان الضلالُ أبعدَ، وإنَّ قَبولَ الحقِّ ليس مرتبطًا بقوة الحجة، ولا وضوحِ المحجَّةِ، ولكنَّه مرتبط بالصدق في طلَب الحقيقة والحرصِ عليها؛ ولهذا فإن الحديث عن الحقائق لِمَنْ لا يَصْدُقُ في طلبِها جُهدٌ ضائعٌ.

خلق الإنسان

            ليس لله خلقٌ هو أحسن من الإنسان؛ فإن الله خلَقَه حيًّا، عالِمًا قادرًا، متكلِّمًا، سميعًا، بصيرًا، حكيمًا، أما الملاحدة فقد أسقَطُوا الإنسانَ من عزِّ التكريم الرباني إلى الدَّرَك الحيوان، وما هو أدنى من الحيوان، وسلَبُوه خصيصةَ العقل؛ فهو بعقله يرتقي فوقَ جميع المخلوقات، في وعيٍ وإرادةٍ حُرَّةٍ، وليس غريزةً جبليةً ظاهرةً، سلبوه فضيلةَ تسخير الكون له، هو عندهم منحطٌّ من خليَّةٍ، ثم حشرةٍ، وما فوقها؛ فهم لا يرونه إلا ذرةً في مجرَّة، يقول رب العزة -جل جلاله-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(الْإِسْرَاءِ: 70)، ويقول -عز شأنه-: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الْجَاثِيَةِ: 13).

تأملوا هذه الآيات الكريمات

         ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، وتأملوا هذه الآيات الكريمات؛ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(الْقَصَصِ: 56)، {قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(الْحُجُرَاتِ: 17)، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}(الْكَهْفِ: 17)، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}(الْبَقَرَةِ: 272)، {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الْأَنْعَامِ: 39)، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}(يُونُسَ: 99-101).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك