رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 24 يناير، 2024 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – الإحسان والإ تقان دليل الإيمان

   

  • أول ما ينبغي للعبد أن يسعى في إتقانه هو توحيد الرب جلَّ جلالُه وإفراده بالعبادة فمن أجل التوحيد خلَق اللهُ السماواتِ والأرضَ
  • مَنْ حقَّق التوحيدَ فاز بجَنَّة عرضُها السماواتُ والأرضُ ومَنْ أخَلَّ بتوحيدِه فأشرَك مع الله غيرَه فلن تُقبَلَ منه عبادتُه
  • تربية الأبناء على الإتقان يُعزِّز فيهم قوةَ الإرادة فتكون لهم أنفس توَّاقة يحققون بها معالي الأمور ويبتعدون عن سفسافها فينفعون أنفسهم، ويعمرون أوطانهم
 

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ: 30 جمادي الآخرة 1445هـ، الموافق 12 يناير 2024 بعنوان: (الإحسان والإتقان دليل الإيمان)، لإمام الحرم الشيخ: ماهر المعيقلي، الذي بين في بداية خطبته أنَّ اللهُ -تعالى- خلَق هذا الكونَ بجَمال وجَلال، وإتقان وكمال، بزينة تسترعي النظرَ، وجَمال يستدعي التفكرَ، لا تنقضي عجائبُه، ولا تنتهي أسرارُه، فالكون بسمائه وأرضه، وكواكبه ونجومه، ونهاره وليله، وشمسه وقمره، آياتٌ بيِّناتٌ على إتقان الخالق -جلَّ وعلَا: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(يس: 37-40).

      وكُلَّما تدَّبْرَنا آثارَ خَلقِه، نرى التقديرَ بميزان، والحسابَ بإتقان، وصدَق اللهُ؛ إذ يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(الْقَمَرِ: 49)، فأحسَن -سبحانه- خَلقَه، وجوَّدَه وأتقَنَه، وجعَلَه بديعًا في هيئته ووظيفته، وأعطى كلَّ شيء خلقَه ثم هدى، بما تقتضيه حكمةُ العليّ الأعلى.

أول ما ينبغي للعبد أن يسعى في إتقانه

        وأول ما ينبغي للعبد أن يسعى في إتقانه، هو توحيد الرب -جلَّ جلالُه-، وإفراده بالعبادة؛ فمن أجل التوحيد، خلَق اللهُ السماواتِ والأرضَ، والجنةَ والنارَ، ولأجلِه أَرسَلَ اللهُ رُسُلَهُ، وأنزَل كُتُبَه، وهو أصلُ الدينِ وأساسُه، وأوَّلُ أركانِه، وأولُ ما أمَر اللهُ به في كتابه، وهو أعلى شُعَب الإيمان، وأَثقَلُ شيءٍ في الميزان، وأولُ ما يُسأل عنه العبدُ في قبره، ويومَ حَشرِه ونَشرِه، والموحِّد أَرجَى مَنْ يحظَى بمغفرةِ ربه وعفوه؛ ففي الحديث القدسي، يقول الله -تعالى-: «وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً، لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً»(رواه مسلم).

تحقيق التوحيد

        فمَنْ حقَّق التوحيدَ، فاز بجَنَّة عرضُها السماواتُ والأرضُ، ومَنْ أخَلَّ بتوحيدِه، فأشرَك مع الله غيرَه، فلن تُقبَلَ منه عبادتُه، فاللهُ غنيٌّ عزيزٌ، لا يَقبَل عملًا لم يُرَدْ به وجهُه، وفي صحيح مسلم، قال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» (رواه مسلم)، وأَولَى الأعمال بالإتقان بعد التوحيد، ما افترضَه اللهُ -تعالى- على عباده، فالوضوء رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم - في إتقانه، حتى في المكاره، من برد ونحوه، فقال -صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ»(رواه مسلم).

تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم - من الإخلال بالتوحيد

         وحذَّر - صلى الله عليه وسلم - من الإخلال بالتوحيد، ففي صحيح مسلم، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ، فَتَوَضَّؤُوا وَهُمْ عِجَالٌ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ، لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ».

أعظمُ الشعائرِ بعدَ التوحيد

       والصلاة التي هي أعظمُ الشعائرِ بعدَ التوحيد، جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخل بأركانها كالذي لم يُصَلِّها، ففي الصحيحين: قال -صلى الله عليه وسلم - لرجل لم يُتقِن أداءَ صلاته: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، فتربى الصحابةُ -رضي الله عنهم- على الإتقان، فكان أحدُهم إذا حفظ شيئًا من آي القرآن، لم ينتقل لغيرها، حتى يُتقِنَها فِقهًا وعَمَلًا.

قضية الإتقان في الشريعة

         ولم تكن قضية الإتقان في الشريعة، خاصَّة بالشعائر التعبدية، ولا بالعلوم الشرعيَّة، بل حتى في الأعمال الدنيوية؛ لأن الإتقان سُنَّة كونيَّة، ومنهج حياة، وسمة حضارة، ولذا نجد النبيَّ -صلى الله عليه وسلم -، عُنِيَ بالإتقان في كل شيء، فقال: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»(رواه مسلم)، فأراد -صلى الله عليه وسلم - أن يسعى المرء لإتقان عمله حتى ولو لم يكن للعمل آثار اجتماعية، كذبح البهيمة، الذي ينتهي بإتمام العمل كيفما كان، ولكنه قصد - صلى الله عليه وسلم - إتقان العمل في شتَّى المجالات، فكان يُشِيد بالمبدِعينَ والمتقنينَ من أصحاب الحِرَف، ويُوكلهم إلى ما يتقنونه من الحرف، فهذا طَلْق بن علي الحنفي - رضي الله عنه -، جاء إلى المدينة، والنبي -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يبنون المسجدَ، فأراد أن ينقل معهم الحجارة، فوجهه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يتقنه، ففي مسند الإمام أحمد، عن طلق بن علي - رضي الله عنه - قال: «جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ، قَالَ: فَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ عَمَلُهُمْ، قَالَ: فَأَخَذْتُ الْمِسْحَاةَ، فَخَلَطْتُ بها الطِّينَ، فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ أَخْذِي الْمِسْحَاةَ وَعَمَلِي، فَقَالَ: «دَعُوا الْحَنَفِيَّ وَالطِّينَ، فَإِنَّهُ أَضْبَطُكُمْ لِلطِّينِ».

هدف يسمو به المسلم

          إن الإتقان هدف يسمو به المسلم، ليرتقي به في مرضاة ربه، والإخلاص له، لأنَّ الله -تعالى- لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، وإخلاص العمل، لا يكون إلا بإتقانه، قال سبحانه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(هُودٍ: 7)، أي: أخلَصُه وأصوبُه، فالخالصُ أُخرويٌّ، والصوابُ دنيوي، وهو الإتقان.

الإتقان في حياتنا العَمليَّة

          ويتأكد الإتقان، في حياتنا العَمليَّة، فيسعى المرء للتفوق في كل جوانب حياته، ليكون الإتقانُ سمةً أساسيَّةً في شخصيته، وظاهرةً سلوكيَّةً له، تُلازِم المرءَ في عطائه، والمجتمعَ في تفاعُله وإنتاجِه، بل ونسعى في تربية أبنائنا على قيمة الإتقان، ليعيشوا حياةً مثمرةً، ويفوزوا برضى الرحمن في الآخرة، إن تربية الأبناء على الإتقان يُعزِّز فيهم قوةَ الإرادة، فتكون لهم أنفس توَّاقة، يحققون بها معالي الأمور، ويبتعدون عن سفسافها، فينفعون أنفسهم، ويعمرون أوطانهم.

تربية الأبناء على قيمة الإتقان

           وإنَّ مما يعين الوالدين، في تربية أبنائهم على قيمة الإتقان، التزامهم بأوامر الشريعة، فالصلاة على سبيل المثال: يؤمر بها الابن في السابعة، ويُضرَب عليها في العاشرة، فإذا وصل مرحلة تكليفه، كان متقنًا لصلاته، مُجوِّدًا لها، مُحسِنًا في أدائها، فالأبناء إذا تربَّوْا على الصلاة، أتقَنُوا عدةَ مهارات، من إقامة الصلاة على وقتها، واستحضار مقابلة الله فيها، وفعلها خمس مرات في اليوم والليلة، مع طمأنينة الجوارح والأركان، وتسوية الصفوف ومتابَعة الإمام، كلُّ هذه الأعمال، تتطلَّب التعود على الإتقان، حتى ينتقل هذا الإتقان من الصلاة، إلى سائر الأعمال، دنيويَّةً كانت أو أخرويةً، وصدَق - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ يقول: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا»(رواه البخاري ومسلم).  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك