رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 12 ديسمبر، 2023 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – ألم يعقبه أمل

  • الألمُ نعمةٌ تستحِقُّ الشكرَ ومَهمَا امتدَّ فإنَّه زائلٌ ومَهمَا طالَ فإنَّه ماضٍ ومهما اشتدَّت حرارتُه فإنَّه إلى أُفُول ويَعقُبُه فرجٌ وخيرٌ وتمكينٌ
  • في حياة المسلم أَلَم محمود يدفع إلى العمل ويُهذِّب السلوكَ ويُقوِّم السيرَ ومِنَ ذلك ِما يُورِثُه الغضبُ لله تعالى حينَ تُمتَهَنُ شعائرُ اللهِ ويُستهانُ بحرماتِ الله
  • مِنَ الناسِ مَنْ تمدُّه عقيدتُه بالثبات ويُغذِّيه إيمانُه بالصبر فيجعلُ من الألم أَمَلًا ومِنَ الحزن فرحًا ومن الضَّعْف قوةً
  • الناس مع الألم أصناف يتفاوتون على قدر إيمانهم ويقينهم وعزمهم وقوة إرادتهم
 

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 17 جمادي الأولى 1445 الموافق 1 ديسمبر 2023 بعنوان: (ألم يعقبه أمل)، ألقاها إمام الحرم الشيخ: عبدالباري بن عواض الثبيتي، الذي أكد في بداية خطبته أن الله -تعالى- خلَق الإنسانَ متقلبَ الأطوارِ، ينبِض بالإحساس، ويفيض بالمشاعر، يتألَّم ويَسكُن، ويَضعُف ويَعجَز، يخاف ويأمن، تَعصِف به مراحلُ الحياة في جراحاته وآلامه، وفي مواقف القهر والظلم، والخسارة والحرمان، والفَقْد والوَجْد؛ إنها سُنَّةُ اللهِ في خَلقِه، وطلبُ العيشِ بلا ألمٍ طلبُ محالٍ؛ كما قال -تعالى-: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ في كَبَدٍ}(الْبَلَدِ: 4)، وهو -سبحانه- مَنْ يُقَدِّرُ الضرَّ والنفعَ، وما يُصِيب المرءَ من الآلام الحِسِّيَّة فيها والنفسيَّة، بل والعضوية دليلٌ على أن هذه الدنيا دار ابتلاء، قال الله -تعالى-: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(آلِ عِمْرَانَ: 140).

         وبين أن الألم يُوقِظُ من الغفلةِ، ويُعرِّف بالنعمة، ويُرشِد الحيرانَ؛ رحمةً من الله، قد تغيبُ عنَّا حكمتُها؛ فكم من ألمِ مرضٍ عضالٍ غيَّر مجرى الحياة، وكم من ألم نبَّه وأرشَد إلى مرضٍ صامتٍ يَنخَر في الجسم وصاحبُه لا يدري، مرارةُ الألمِ تُذِيقُكَ حلاوةَ الصحة وطعمَ الراحة، وأُنسَ العافية؛ فالألمُ نعمةٌ تستحِقُّ الشكرَ، ومَهمَا امتدَّ فإنَّه زائلٌ، ومَهمَا طالَ فإنَّه ماضٍ، ومهما اشتدَّت حرارتُه فإنَّه إلى أُفُول، ويَعقُبُه فرجٌ وخيرٌ وتمكينٌ؛ يوسف -عليه السلام- تآمَر إخوتُه عليه، وأَلقَوْه في الجُبِّ، وراودته امرأةُ العزيزِ، وكادَتْ له النسوةُ، ودخَل السجنَ، ثم أعقَب سنينَ المعاناة نصرًا وتمكينًا وعِزًّا.

مكر الكافرين برسول الله - صلى الله عليه وسلم 

         رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مكَر به الماكرون في كل خطوة من خطوات حياته، وكاد له الكائدون في كل مرحلة من مراحل سيرته؛ حتى قال: «أُوذِيتُ في اللهِ وما يُؤذَى أحدٌ»، فماذا كان بعدُ؟ لقد ذهَب المكرُ وأهلُه، والكيدُ وجندُه، إلى مزبلة التاريخ، وتلاشى الألم، وبقيت دعوتُه ورسالتُه وأمته يزهو بريقها، ويمتد إشعاعُها، ويتعاظَم أثرُها، وتشتد جذورُها.

ابتلاء أم سلمة -رضي الله عنها

          وابتُليت أم سلمة -رضي الله عنها-، وتألمت لفقد أبي سلمة أعز الناس إليها، فأخلف الله عليها بأحب الناس إليه، وأعظم من أبي سلمة؛ رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، لتصبح له زوجًا وأما للمؤمنين، وذكر القرآن قصة معاناة وألم صحابته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، هما وغما، هجرهم الأخ والقريب، واعتزلهم الجميع، لا يكلمهم أحد خمسين ليلة، حتى جاءهم الفرج، وزال الألم، وأشرقت حياتهم بتوبة الله وثنائه عليهم، في قرآن يتلى إلى قيام الساعة.

الألم عاقبته حميدة

         والمسلم يعلم يقينًا أن الألم يعقبه أمل، وفي ردهاته غنيمة، وعاقبتُه حميدةٌ، والخيرُ الآجِلُ لا يُبصِرُه المرءُ في حِينِه، والصبرُ على لأوائه يُفجِّر سيلًا من الحسنات، كم من الهموم والغموم التي تُخيِّم على حياتنا، ثم تنقشعُ بفجرٍ صادقٍ ويومٍ مشرقٍ؛ وهناك عاقبةٌ متحققةٌ، في دارٍ خلودُها دائمٌ، ونعيمُها قائمٌ، هي عزاءٌ لكل متألِّم، وعِوَضٌ لكل مغبونٍ؛ حتى إنَّه لَيُغمَسُ في الجنةِ غمسةً واحدةً فيقال له: «هل رأيتَ بؤسًا قطُّ؟ هل مرَّ بكَ شدةٌ قَطُّ؟ فيقول: لَا واللهِ يا ربِّ، ما مرَّ بي بؤسٌ قَطُّ، ولا رأيتُ شدةً قَطُّ».

أصناف الناس مع الألم

         والناس مع الألم أصناف، يتفاوتون على قدر إيمانهم ويقينهم وعزمهم وقوة إرادتهم؛ فمنهم مَنْ يَفقِد توازُنَه، وتهتزُّ قُوَاهُ، وتخورُ عزيمتُه، وتُسلَبُ إرادتُه، ويتسلَّطُ عليه الوهمُ والخوفُ، ويغدو بائسًا يائسًا، ومِنَ الناسِ مَنْ تمدُّه عقيدتُه بالثبات، ويُغذِّيه إيمانُه بالصبر، فيجعلُ من الألم أَمَلًا، ومِنَ الحزن فرحًا، ومن الضَّعْف قوةً؛ ومع كل هذا؛ فإنَّ المسلمَ المهتديَ يَفقَهُ وجوبَ مدافَعة الألم، ورفعِه بالوقاية أولًا من مسبِّباته، وبتحصين نفسِه من مباشَرةِ الفتنِ الموجِعةِ، ومقارَبةِ الأخطار المحدقة؛ وذلك بالذِّكر والدعاء والتضرع إلى الله، والتداوي وفعل الخير والإحسان.

حياة المسلم أَلَم محمود

        وجديرٌ بالذِّكر أن في حياة المسلم أَلَمًا محمودًا، يدفع إلى العمل، ويُهذِّب السلوكَ، ويُقوِّم السيرَ؛ ومِنَ الألمِ المحمودِ ما يُورِثُه الغضبُ لله -تعالى- حينَ تُمتَهَنُ شعائرُ اللهِ، ويُستهانُ بحرماتِ الله، قال -تعالى-: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}(الْحَجِّ: 32)، كما يتألم القلب الحيي حين يتلوث بالذنوب والمعاصي، وألم ذلك عليه ثقيل كالجبل، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا»، فلا جرم أن يدفع هذا الألم إلى التغيير وأن يعقبه ندم وتوبة.

صفحات الأولين وسِيَر المعاصرينَ

           يقلب الإنسان ناظريه ويجيله في صفحات الأولين، وسِيَر المعاصرينَ، وفي مَنْ حولَه من الأقران والأصدقاء، فيجد فيهم السبَّاق إلى القُرُبات في أعمال البر، ومَنْ يحفظ القرآن، ومن استقر جسدُه وقلبُه في الصفوف الأولى في بيوت الله، ومن نال الدرجات العلا في سُلَّم العِلْم، ومَنْ ثَنَى رُكبَتَيْه عندَ العلماء للعِلْم والطلب، ومن هو مضرب المثل في بر الوالدين، ومن بسط يده للإنفاق، ومن سخَّر وقتَه لخدمة الفقراء والمساكين والأيتام، ومن بذل حياته لنشر العلم، ومن نصَّب قلمَه للذود عن الشرع والدِّين، ومَنْ غدَا عضوًا فاعِلًا في بناء مجتمعه وخدمة وطنه؛؛ ومِن ثَمَّ ينظر إلى سيرته، ويتأمل تاريخه، فيتحسر لما يرى من تراجع في حاله، فيدفعه هذا الألم إلى العمل والتغيير، وتتوق نفسه إلى السباق واغتنام الفُرَص واستثمار العمر.

حال المسلم مع إخوانه

          والشأن في المسلم أنَّه يَشعُر بآلام الموجوعين؛ فيُشاطِر المرضى آلامَهم بزيارتهم ومواساتهم، وتسلية المتوجِّع، وإدخال السرور عليهم، وتذكيرهم بالأجر والصبر، ينبض قلبه بالحياة والإحساس، يستشعر معاناة الضعفاء، يتألم لألم اليتيم المنكسر، والعاجز المتعطل، والفقير المعدم، وهذا الألم يدفعه إلى تذكر الإحسان والبذل والعطاء، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرحَمُ»، ونُشِيد هنا بالحملة المبارَكة التي دعا إليها خادمُ الحرمين الشريفين -حفظه الله- بالتبرع لدعم المحتاجين في غزَّة، عبرَ القنوات الرسميَّة، والتجاوب الكبير من أبناء وطن مِعطاء، يبذُلُ بسخاء، وقد آتت أُكُلَها، ووصلت إلى مستحقيها، قال الله -تعالى-: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(الْبَقَرَةِ: 274).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك