رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: محمد مالك درامي 17 أغسطس، 2023 0 تعليق

حقوق المتهم في الشريعة الإسلامية        (١)

إن حقوق المتهم هي حقوق أصلية وليست عارضة، وهذه الحقوق مصدرها الشريعة الإسلامية التي قامت على العدل والإنصاف، وإعطاء كل ذي حق حقه مع كل الناس، قال -تعالى-:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: ٨)، بهذا نعلم أن الشريعة لم تغفل حقًّا لذي حق، بل جاءت كاملة مراعية للمقاصد محققة واجب الحفظ والزجر بما يضمن التأديب والإصلاح.

والحق للمتهم منه ما هو واجب مفروض له، ومنه ما هو أمر ثابت طبيعي له، فله إذًا حقوق في الحياة لأنه إنسان خلقه الله له ما له و عليه ما عليه.
  • أولاً: تعريف المتهم في اللغة
المُتَّهَمُ في اللغة: هو الذي وقعت عليه التهمة، وأَتْهَم الرجلُ، على أَفْعَل، إِذا صارت به الرِّيبةُ، وفي الحديث: أَنه حبس في تُهْمة وهي ما يتهم به الشخص وينسب إليه، وتأتي بمعنى الاتهام، يقال: أتَّهِمُ فلاناً بكذا، أي أدخل عليه التهمة فيه.
  • ثانيًا: تعريف المتهم في الاصطلاح
لا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، فالمتهم في الاصطلاح هو الشخص الذي يثبت قيامه بارتكاب فعل مجرم بنص شرعي أو نظامي، وفي بعض المصطلحات القانونية: المتهم هو الطرف الثاني أو الخصم أو المدعى عليه في الدعوى الجنائية أي الشخص الذي يوجه إليه الاتهام منذ الوقت الذي تثار فيه أو تحرك فيه الدعوى الجنائية قبله، ومرورا بكل المراحل؛ حيث لا تسقط صفة الاتهام إلا بانقضاء هذه الدعوى التي يعد المتهم طرفا، فيها وذلك إما بصدور حكم باتٍّ أو بسبب آخر من أسباب الانقضاء.
  • ثالثًا: تعريف المتهم في القانون
تعددت التعريفات التي أعطيت للمتهم عند علماء القانون؛ فهناك من قال: المتهم هو كل شخص اتخذت سلطة التحقيق إجراء من إجراءات التحقيق في مواجهته، أو أقيمت الدعوة الجزائية عليه قانونًا، ويمكن أن يقال: هو كُلّ شخص اتّهم بجريمة أو عمل أو اشترك فيه، ويكون ذلك العمل مخالفا للقانون، فالمتهم إذا هو من نسبت إليه دعوى فعل محرم، يوجب عقوبته إذا ثبت عليه الدعوة.
  • أبرز ضمانات المتهم في الشريعة الإسلامية
يعد حق المتهم للدفاع عن نفسه في الشريعة الإسلامية من أهم عناصر إقامة العدل، الذي يعد من أعظم حقوق الإنسان المستمدة من الله-عز وجل- مباشرة؛ إذ قصر الله - سبحانه وتعالى- الحكم على نفسه فقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (الأنعام: ٥٧)، فالشريعة الإسلامية كفلت للمتهم حق الدفاع عن نفسه أمام مجلس القضاء، ومعنى هذا الحق، هو تمكين المتهم من دفع التهمة الموجهة إليه، بأن يأتي بدليل ينقض دليل التهمة، أو بإثبات عدم صحة ذلك الدليل. ولابد من تمكين المتهم من ممارسة هذا الحق تمكينًا تاما؛ لأنه إذا لم يسمح له ممارسة هذا الحق تحول الاتهام إلى إدانة، وكل ما ورد من المبادئ والأُسس التي تؤكد هذا الحق في إعلانات حقوق الإنسان وما جسد في الدساتير العالمية ما هي إلا أعمال كاشفة لما قررته الشريعة الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان. وإن كانت الشريعة الإسلامية لم تتعرض لحق المتهم في الدفاع عن نفسه بنفسه صراحة- كما هو في القانون الوضعي- فإن لهذا الحق في الشريعة الإسلامية مظاهر عديدة أهمها:

أولا- حق المتهم في الحضور

     يعد حضور المتهم لإجراءات المحاكمة أمرا مهما؛ لذا يجب على القاضي ألا يحكم على المتهم الغائب؛ لأنه مهما قُدّم له من أدلة ضد المتهم فقد يأتي هذا الأخير بما يدحض هذه الأدلة، فحضور المتهم في المحكمة ومشاركته، تعطيه الفرصة بأن يكون لديه دور إيجابي في إجراءاتها، كما أن من شأن حضوره إتاحة الفرصة لهيئة المحكمة باستعمال سلطاتها التقديرية استعمالاً صائبًا، وهذا المبدأ ضروري لغايات تمكين الخصوم من إبداء آرائهم وأقوالهم.  

المتهم الغائب لا يصح الحكم عليه

      ويكاد الفقهاء يتفقون على أن المتهم الغائب لا يصح الحكم عليه من القاضي إلا بعد حضوره، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لعلي – رضي الله عنه  لما أرسله إلى اليمن-: « إذا أتاك الخصمان فسمعت أحدهما فلا تقضين بينهما حتى تسمع من الآخر، فإنه أثبت لك»، ولذلك يجب على المتهم والمدعى عليه تلبية نداء الحاكم أو القاضي والحضور إلى مجلس القضاء، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: ٥٩).  

السماع للخصمين

      وعن علي – رضي الله عنه -، قال: بعثني رسول الله - – صلى الله عليه وسلم - - إلى اليمن قال: فقلت يا رسول الله، تبعثني إلى قوم أسن مني، وأنا حدث لا أبصر القضاء؟ قال: فوضع يده على صدري وقال: «اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه، يا علي، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء» قال: فما اختلف علي قضاء بعد، أو ما أشكل علي قضاء بعد، وقال عمر بن عبدالعزيز: إذا أتاك الخصم وقد فُقِئَت عينه، فلا تحكم له حتى يأتي خصمه.  

متى يجوز الحكم على الغائب؟

       إلا أنه يشترط لتمتع المتهم بهذا الحق أن يكون هذا المتهم موجودًا في محل ولاية القاضي وغير متخف، أما إذا كان المتهم غير موجود في ولاية القاضي أو متخف فقد اختلف الفقهاء بشأنه، فقد رأى الأحناف عدم القضاء على الغائب حتى يحضر، بينما الإجماع قائم بين الفقهاء على جواز القضاء على الغائب، وكذا إذا كان حاضرا وامتنع من حضور مجلس الحكم فأجاز الشافعية ذلك، وأجازه المالكية القضاء على الغائب فيما ينقل، ولا يجوز القضاء عليه فيما لا ينقل من العقار، والحنابلة كذلك يرون القضاء على الغائب إذا غاب عن البلد أو عن مجلس القضاء، أو استتر عن القضاء، واستدلوا بقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (النساء: ١٣٥)، فقالوا إن الأمر بإقامة القسط يُفيد العموم، فيشمل الحاضر والغائب، فيصبح بذلك القضاء على الغائب كالحاضر، وقالوا أيضا إن القضاء على الغائب لا يخل بحق المتهم في الدفاع أمام القضاء؛ لأنه إذا حضر المتهم كانت حجة قائمة، ويمكن سماعها والعمل بها حتى ولو أدى ذلك نقض الحكم.  

سماع الدعوى على المتهم

        فالأصل ألا تسمع الدعوى على المتهم ولا يقضى عليه إلا في مواجهته وحضوره مادام ذلك ممكنا؛ إذ قد يوجد لدى المتهم عذر يمنعه من الحضور إلى مجلس القضاء، وذلك بأن يكون مريضًا، أو نزيل إحدى المستشفيات أو أحد السجون أو مخطوفًا، ولكن يجوز الحكم على الغائب كما هو الإجماع عند الفقهاء، وهذا ما نرجحه- والله أعلم -  وذلك لما يأتي:  
  •  إن النبي – صلى الله عليه وسلم -  حكم لهند أم معاوية زوجة أبي سفيان -رضي الله عنهما- وهو غائب، عندما قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفينا وولدي؛ فهل علي جناح أن آخذ من ماله من غير علمه؟ فقال لها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:» خدي ما يكفيك وولدك بالمعروف»، ووجه الاستدلال به: أنه حكم على أبي سفيان وهو غائب.
  • أن عدم الحكم على الغائب يعرض حق الحاضر للضياع؛ لأن الغائب قد يموت، أو لا يقدم، فيضيع الحق.
  • أن عدم الحكم على الغائب يؤدي إلى التهرب بالغيبة من الحقوق.
  • أنه يمكنه التوكيل إذا شق أو تعذر عليه الحضور، فإذا لم يحضر ولم يوكل جاز الحكم عليه؛ لأنه يكون حينئذ متهربًا.
  • أنه لا ضرر عليه بالحكم عليه كلما تقدم في التوجيه بخلاف صاحب الدعوى فيتضرر بالتأخير، وتعريض حقه للضياع.
  • أنه يمكن الاحتياط للغائب إن اقتضى الأمر، بأخذ رهن أو كفيل مليء.
  • أنه لا ضرر على الغائب بالحكم عليه؛ لأنه إذا قدم كان على حقه فيرد إليه ماله أو يعوض عنه إذا ثبت أن ما حكم به عليه لا يلزمه، فلا يضيع عليه.
  • إن الحكم على الغائب يوافق مبدأ سد الذرائع، الذي يعمل به عند عامة الفقهاء على اختلاف بينهم في نسبة الأخذ به.
  • والغائب لا يفوت عليه حق؛ فإنه إذا حضر كانت حجته قائمة وتسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدى إلى نقض الحكم؛ لأنه في حكم المشروط.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك