رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: جمال عبدالرحمن 22 أكتوبر، 2023 0 تعليق

تعلمتُ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم  (2) – الإصرار على التزام أمر الله

   

  • كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية وقِمة في الامتثال لشرع الله تعالى وكان منهجه الصارم سمعنا وأطعنا
  • كان النبي صلى الله عليه وسلم يصر على الالتزام بما أوحي إليه لا يتجاوزه قدر أنملة
 

أرسل الله -تعالى- رسولنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأوحى إليه كما أوحى إلى نوح والنبيين من بعده، وأمره الله -عز وجل- بإقامة دينه والاستقامة على أمره، فقال -جل وعلا-:{فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. (هود/112).

ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- غاية وقِمة وأُمَّةً في الامتثال لشرع الله -تعالى- فكان منهجه الصارم، سمعنا وأطعنا. وهذا ما سنراه في مواقفه كافة.

(1)  قصة المرأة المجادلة

      المرأة المجادلة خولة بنت ثعلبة -رضي الله عنها-، حدثت لها مشكلة طلاق مع زوجها أوس بن الصامت - رضي الله عنه -، وكانت هي وزوجها فقيرين أشد الفقر، ولم يكن لها عائل يعولها بعد هذا الزوج، فلما جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- تشكو له ظِهار زوجها لها، أخبرها النبي بأنها طالق وحَرُمَت على زوجها، فظلت تلح وتجادل وتحاور، والنبي - صلى الله عليه وسلم- ليس لديه وحي جديد يعالج حالتها غير أنها طالق، فالتزم بما يعلمه من شرع ربه في هذه القضية، ومع أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وعزيز عليه ما يعنتهم ويؤلمهم، فلم تأخذه عاطفته أن يغير مجرى النص والشرع.

إصرار النبي - صلى الله عليه وسلم- على الالتزام بالوحي

       وفي تفسير عبد الرزاق يظهر إصرار النبي - صلى الله عليه وسلم- على الالتزام بما أوحي إليه لا يتجاوزه قدر أنملة، فقد ذكر عبد الرزَّاق عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا أَجِدُ رَقَبَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَنَا بِزَائِدِكَ»، يعني ما عندي البديل الزائد عما قلت لك فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (المجادلة: 4) فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ مَا أُطِيقُ الصَّوْمَ، إِنِّي إِذًا لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ كَذَا وَكَذَا أَكْلَةٍ لَقِيتُ وَلَقِيتُ، فَجَعَلَ يَشْكُو إِلَيْهِ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَنَا بِزَائِدِكَ فَنَزَلَتْ»، {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (المجادلة: 4).

الوقوف على الوحي

      والناظر فيما تقدم يرى إصرار النبي - صلى الله عليه وسلم- على الوقوف على ما أوحي إليه دونما أي تزحزح عنه رغم صعوبة ما يرى من أحوال أصحابه، فقوله - صلى الله عليه وسلم- لها مكررًا:» حَرُمْتِ عَلَيْهِ، حَرُمْتِ عَلَيْهِ، ما أوحي إلي في هذا شيء، هُوَ مَا قُلْتُ لَكِ»، وقوله لزوجها أيضًا:» مَا أَنَا بِزَائِدِكَ، مَا أَنَا بِزَائِدِكَ»، يدل على تمسكه الشديد بنصوص الوحي مهما اشتد الأمر وعَظُمَ الخَطْب. إن النبي - صلى الله عليه وسلم- يحقق في ذلك أمر الله -تعالى- له، وهو أمر يشمل الأمة جميعًا، وهو قوله -جل وعلا-: {فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ}. (هود/112)، وكذلك قول الله -تعالى- عن عيسى -عليه الصلاة والسلام- كما حكى القرآن الكريم: «مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ». (المائدة/117).

(2)  دقة استخدام الألفاظ النبوية

       عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ»، قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، قَالَ: «لاَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ». (صحيح البخاري ح 247 ومسلم)، وهنا يظهر أيضًا تمسُّك النبي - صلى الله عليه وسلم- بالوحي لا يغيره ولو في كلمة واحدة، لأن ما ينطق به ما هو إلا وحي يوحى إليه من ربه -تبارك وتعالى.

أَلْفَاظُ الْأَذْكَارِ تَوْقِيفِيَّةٌ

      قال ابن بطال -رحمه الله تعالى-: قوله - صلى الله عليه وسلم-: «ونبيك الذي أرسلت» حجة لمن قال: إنه لا يجوز نقل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- على المعنى دون اللفظ، وهو قول ابن سيرين، ومالك وجماعة من أصحاب الحديث، وقال المهلب: إنما لم تبدل ألفاظه - صلى الله عليه وسلم- لأنها ينابيع الحكمة، وجوامع الكلام، فلو جُوِّز أن يعبر عن كلامه بكلام غيره سقطت فائدة النهاية في البلاغة التي أعطيها - صلى الله عليه وسلم. (شرح صحيح البخارى لابن بطال:1/ 365). وقال ابن حجر -رحمه الله-: وَأَوْلَى مَا قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ فِي رَدِّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَنْ قَالَ الرَّسُولَ بَدَلَ النَّبِيِّ: أَنَّ أَلْفَاظَ الْأَذْكَارِ تَوْقِيفِيَّةٌ وَلَهَا خَصَائِصُ وَأَسْرَارٌ لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ، فَتَجِبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمَازِرِيِّ، قَالَ: فَيُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى اللَّفْظِ الْوَارِدِ بِحُرُوفِهِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ الْجَزَاءُ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ، وَلَعَلَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَيَتَعَيَّنُ أَدَاؤُهَا بِحُرُوفِهَا. (فتح الباري لابن حجر 11/ 112)، وهذا ما التزمه النبي - صلى الله عليه وسلم- في عدم تغيير لفظ واحد في النص ولو جيء بمرادِفِه. قال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: وَهَذَا مُسَلَّمٌ فِي التَّعَبُّدِ بِالْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ الْعُدُولَ إلَى لَفْظٍ آخَرَ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ الِامْتِثَالُ. (نيل الأوطار :2/ 357). ومما سبق يتبين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ما أصر على تعديل لفظ الرسول إلى النبي من تلقاء نفسه؛ لأنه كما قال عنه ربه -عز وجل-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. (النجم:3، 4).

(3)  قصة آية الملاعنة

        عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ - رضي الله عنه - قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- لهلال: «البَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ النَّبِيُّ -[- يَقُولُ: «البَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» فَقَالَ هِلاَلٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الحَدِّ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (النور: 6) فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (النور: 9) فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَجَاءَ هِلاَلٌ فَشَهِدَ، وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لاَ أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ اليَوْمِ، فَمَضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ، سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ»، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ». (صحيح البخاري ح 4747).

البَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ

       وفي تكرار قول النبي - صلى الله عليه وسلم- لهلال - رضي الله عنه -: «البَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ»؛ التزام بما عليه الشرع حتى تلك اللحظة، رغم أن هلالًا قال كلامًا منطقيا عقليا جدا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم- نفسه يفهم كلام هلال ومنطقه، لكن الذي يلتزم به النبي - صلى الله عليه وسلم- أكثر أنه لا اجتهاد مع النص، ولا يغلب العقل النقل، ولا يقدَّم عليه، ولا يُضرَب لله الأمثال، إنما روح النصوص في الامتثال؛ فأنزل الله ما يوافق منطق هلال؛ حيث قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الحَدِّ. فلما نزلت آية اللعان دار النبي - صلى الله عليه وسلم- مع الحق حيث دار، وسار مع النص حيث سار. قال المباركفوري -رحمه الله تعالى-: وَلَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ من بيان: أَيْ لَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ حُكْمِهِ بِدَرْءِ الْحَدِّ عَنِ الْمَرْأَةِ بِلِعَانِهَا - صلى الله عليه وسلم-لَكَانَ لَنَا وَلَهَا شَأْنٌ، أَيْ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، والْمَعْنَى لَوْلَا أَنَّ الْقُرْآنَ حَكَمَ بِعَدَمِ الْحَدِّ عَلَى الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَعَدَمِ التَّعْزِيرِ لَفَعَلْتُ بِهَا مَا يَكُونُ عِبْرَةً لِلنَّاظِرِينَ وَتَذْكِرَةً لِلسَّامِعِينَ. (تحفة الأحوذي:9/21)، إنه النبي - صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة في أبهى صورها وأعلاها، وللمسلمين فيه الأسوة والقدوة الحسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك