بكاء الأنصار (2-2)
- لا توجد علاقة إنسانية في التاريخ أقوى من العلاقة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والأنصار -رضي الله عنهم-؛ فهم الذين بادروا لبناء هذه العلاقة الوثيقة بالذهاب إلى مكة ولقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والتعاهد معه على نصرة الدين والدعوة، ثم احتضنوه والمهاجرين في أرضهم بالمدينة لاحقا، وبذلوا المهج العزيزة ومعها الغالي والنفيس لهذا الدين الجديد؛ فبادلهم النبي الشعور والإحساس والامتنان ذاته.
- وفي 8 هـ حصلت غزوة مؤتة، كما حدث فيها فتح مكة الأعظم، وخاف الأنْصَارُ -رضي الله عنهم- بعد فتح مكة ألا يرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم وإلى المدينة.. فقالوا: «أَمَّا الرَّجُلُ (أي النبي - صلى الله عليه وسلم -) فقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بعَشِيرَتِهِ، وَرَغْبَةٌ في قَرْيَتِهِ»، (قريته أي مكة)..وهنا.. أنَزَلَ الله الوَحْي علَى رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يخبره بما جال في خلد الانصار!
- فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم ردا صريحا واضحا سكنت به نفوسهم: «قُلتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ فقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بعَشِيرَتِهِ، وَرَغْبَةٌ في قَرْيَتِهِ، أَلَا فَما اسْمِي إذنْ؟ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أَنَا مُحَمَّدٌ عبدُ اللهِ وَرَسولُهُ، هَاجَرْتُ إلى اللهِ وإلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ». يؤكد لهم مرارا وتكرارا أنه لن يتركهم فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ، فقال الأنصار -رضي الله عنهم-: «وَاللَّهِ، ما قُلْنَا إلَّا ضَنًّا باللَّهِ وَرَسولِهِ»، قالَ - صلى الله عليه وسلم -: فإنَّ اللَّهَ وَرَسوله يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ.
- وهو هنا يذكرهم - صلى الله عليه وسلم - بما تبايعوا عليه قبل الهجرة فقال: «أبايِعُكم على أن تَمنَعوني ممَّا تَمنَعون منه نِساءَكم وأبناءَكم»، فأخَذَ البَرَاءُ بنُ مَعْرورٍ بيدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ قال: «نَعمْ والذي بعَثَكَ بالحقِّ، لَنَمنَعَنَّكَ ممَّا نَمنَعُ منه أُزُرَنا»، فبايِعْنا يا رسولَ اللهِ؛ فنَحْنُ أهلُ الحروبِ، وأهلُ الحلَقةِ، وَرِثْناها كابرًا عن كابرٍ.
- فاعترَضَ القولَ أبو الهَيْثمِ بنُ التَّيِّهانِ حليفُ بني عبدِ الأشهَلِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ بَيْننا وبَيْنَ الرِّجالِ حِبالًا، وإنَّا قاطِعُوها - يَعنِي العهودَ - فهل عسَيْتَ إنْ نحن فعَلْنا ذلك، ثمَّ أظهَرَكَ اللهُ أن تَرجِعَ إلى قَوْمِكَ وتدَعَنا؟ فتبسَّمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ قال: «بل الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الهَدْمُ، أنا منكم، وأنتم مِنِّي، أُحارِبُ مَن حارَبْتُم، وأُسالِمُ مَن سالَمْتُم».
- ثم كانت غزوة حنين التي كان النصر فيها أخيرًا للمسلمين، ثم غزوة الطائف التي دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهلها بالهداية، فهدوا للإسلام، وجاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا وصدقوا. ولمَّا أصابَ رسولُ اللهِ الغنائمَ يَومَ حُنَينٍ، وقسمَ للمُتألَّفينَ مِن قُرَيشٍ وسائرِ العربِ ما قسمَ، ولَم يكُن في الأنصارِ شيءٌ مِنها، قليلٌ ولا كثيرٌ، وجدَ هذا الحَيُّ مِن الأنصارِ في أنفسِهِم حتَّى قال قائلُهُم: لَقيَ -واللهِ- رسولُ اللهِ قَومَهُ؛ فمشَى سعدُ بنُ عُبادةَ إلى رسولِ اللهِ فقالَ: يا رسولَ الله،ِ إنَّ هذا الحَيَّ مِن الأنصارِ وَجدوا علَيكَ في أنفسِهِم، قالَ: فيمَ؟ قالَ: فيما كانَ مِن قَسمِكَ هذهِ الغنائمِ في قَومِكَ وفي سائرِ العربِ، ولَم يكُن فيهِم مِن ذلكَ شيءٌ.
- قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: فأينَ أنتَ مِن ذلكَ يا سعدُ؟ قالَ: ما أنا إلَّا امرؤٌ مِن قَومي. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: اجمَعْ لي قَومَكَ في هذهِ الحظيرةِ فإذا اجتمَعوا فأعلِمني، فخرجَ سعدُ فصرخَ فيهِم فجمعَهم في تلكَ الحظيرةِ، حتَّى إذا لَم يبقْ مِن الأنصارِ أحدٌ إلَّا اجتمعَ لهُ أتاهُ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ اجتمعَ لكَ هذا الحَيُّ مِن الأنصارِ حَيثُ أمرتَني أن أجمعَهُم.
- فخرجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقامَ فيهِم خطيبًا، فحمِدَ اللهَ وأثنَى علَيهِ بما هوَ أهلُهُ، ثمَّ قالَ: «يا معشرَ الأنصارِ ألَم آتِكُم ضُلَّالًا فهداكُم اللهُ، وعالةً فأغناكُم اللهُ، وأعداءً فألَّفَ اللهُ بينَ قلوبِكُم»؟ قالوا: «بلَى»، قالَ رسولُ اللهِ: «ألا تجيبونَ يا معشرَ الأنصار»؟ قالوا: «وما نقولُ يا رسولَ اللهِ وبماذا نُجيبُكَ؟ المَنُّ للهِ ورسولِهِ». قالَ: «واللهِ لَو شِئتُم لقُلتُم فصدَقتُم وصُدِّقتُم: جئتَنا طريدًا فآوَيناكَ، وعائلًا فآسَيناكَ، وخائفًا فأمَّنَّاكَ، ومَخذولًا فنصَرناكَ».
- فقالوا: «المَّنُ للهِ ورسولِهِ». فقال: «أوَجَدتُم في نُفوسِكُم يا مَعشرَ الأنصارِ في لُعاعَةٍ مِن الدُّنيا تألَّفتُ بِها قَومًا أسلَموا، ووَكَلتُكُم إلى ما قسمَ اللهُ لكُم مِن الإسلامِ؟ أفَلا تَرضَونَ يا مَعشرَ الأنصارِ أن يذهبَ النَّاسُ إلى رِحالِهِم بالشَّاءِ والبَعيرِ وتذهَبونَ برسولِ اللهِ إلى رِحالِكُم؟. فَوَالَّذي نَفسي بيدِهِ، لَو أنَّ النَّاسَ سَلَكوا شِعبًا وسَلَكتِ الأنصارُ شِعبًا، لسَلَكتُ شِعبَ الأنصارِ، ولَولا الهجرةُ لكُنتُ امْرَأً مِن الأنصار. اللَّهمَّ ارحَمْ الأنصارَ، وأبناءَ الأنصار، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ».
- فبكَى القَومُ حتَّى أخضَلوا لِحاهُم. وقالوا: «رَضينا باللهِ رَبًّا، ورسولِهِ قسمًا»، ثمَّ انصرفَ، وتفرَقوا.
- وفي 9 هـ هدم مسجد الضرار بأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما علم أن المنافقين بنوه للإضرار والمكر بالمسلمين. وفيها غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - تبوك لقتال الروم، ولما قفل النبي - صلى الله عليه وسلم - راجعاً من تبوك أقبلت عليه وفود العرب قبيلة قبيلة.
- وفي 10 هـ كانت حجة الوداع، وفي هذه السنة التحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى تاركاً أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، ومخلفاً أعظم معجزاته قرآنا يتلى وسيرة عطرة، وخلفاء راشدين وصحابة أبرارا، وأنصارا أخيارا.
22/7/2024م
لاتوجد تعليقات