رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 17 أغسطس، 2010 0 تعليق

النســــــــيان فـــــــــــي القـــــــــــــرآن (1/2)


 

النسيان من العوارض البشرية التي تطرأ على الإنسان فيغيب عن ذهنه بعض الحوادث والمعلومات دون فعل منه أو إرادة، وهذا من العلامات التي تؤكد الضعف البشري والعجز الإنساني، وقد يكون النسيان في بعض الأحيان رحمة ونعمة؛ حيث ينسى الإنسان ما مر به من ذكريات أليمة وحوادث مؤسفة لو ظلت حاضرة في ذهنه لأرّقت ليله وأذابت بدنه وأذهبت عقله، فمن رحمة الله تعالى بنا أن جعل النسيان راحة لنا من هموم الذكريات المؤلمة.

 

 

وقد ورد في القرآن الكريم لفظ «النسيان» في مواضع عديدة ، تارة يكون فيها موضع إخبار وبيان، وتارة يكون موضع تهديد ووعيد، وتارة يضاف إلى العبد، وتارة يضاف إلى الشيطان، وأحيانا يضاف إلى الرحمن، وهذا الأمر قد يسبب الإشكال لبعض الناس ممن لم يفهموا الخطاب القرآني ولم يعرفوا لغة العرب وسعة ألفاظها وتنوع معانيها، فيحملون تلك الألفاظ المتكررة في مواطن عدة على معنى واحد فيقعون في الخطأ العقدي أو سوء الفهم عن الله ورسوله، كما ذكر الإمام أحمد في رسالة «الرد على الزنادقة فيما ادعوه من تعارض آي القرآن»، فنقل أنهم شكوا في القرآن لأنهم ظنوا التعارض في القرآن في مواضع مثل قوله تعالى: {فاليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا} مع قوله: {لا يضل ربي ولا ينسى}، ثم وضّح - رحمه الله- وجه التوفيق بين الآيتين؛ لذا أحببت أن أساهم ببحث وجيز حول ورود لفظ «النسيان» في القرآن والمراد بذلك اللفظ في تلك المواضع؛ ليظهر المقصود للقارئ ويحسن الفهم للقرآن، ويسلم من الشكوك والشبهات التي قد يوردها الشيطان على قلبه بسبب غياب المعنى الصحيح عن ذهنه، وقد قسمت مواطن ورود لفظ النسيان في القرآن إلى ثلاثة أقسام ، وقدمت بمقدمة لبيان معنى النسيان لغة واصطلاحا، سائلا الله تعالى التوفيق والسداد والقبول .

 

تعريف النسيان :

النسيان في اللغة: مصدر الفعل «نسي»، وهذه المادة كما يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة لها: «أصلان صحيحان يدل أحدهما على إغفال الشيء، والثاني على ترك شيء، فالأول: نسيت الشيء، إذا لم تذكره نسيانا ،وممكن أن يكون النِسي منه، والنِّسي ما سقط من منازل المرتحلين من رذال أمتعتهم فيقولون: تتبعوا أنساءكم، ومما شذ عن الأصلين «النسا»: عرق، يقولون: هو النسا، وهو عرق النسا، وإذا همز تغير المعنى إلى تأخير الشيء، ونسئت المرأة تأخر حيضها عن وقته، والنسيئة: بيعك الشيء نَساء وهو التأخير، تقول: نسأ الله في أجلك وأنسأ أجلك: أخره وأبعده، وانتسؤوا: تأخروا وتباعدوا، والنسيء في كتاب الله: التأخير».

وأما في الاصطلاح: فالنسيان ترك الإنسان ضبط ما استودع إما لضعف قلبه وإما عن غفلة وإما عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره، يقال: نسيته نسيانا، قال تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} وقال: {فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان} وقال: {لا تؤاخذني بما نسيت} «بصائر ذوي التمييز، المفردات في غريب القرآن».

 

أما الأقسام الثلاثة فهي كما يلي: 

أولاً- النسيان المضاف إلى العبد:

1- قد يرد لفظ النسيان في موضع الاعتذار وطلب عدم المؤاخذة بسبب الذهول والغفلة وعدم القصد كما جاء في دعاء المؤمنين في قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، قال ابن سعدي:»والفرق بينهما: أن النسيان: ذهول القلب عما أمر به فيتركه نسيانا، والخطأ: أن يقصد شيئا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله، فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا».

وكما جاء النسيان في اعتذار فتى موسى عليه السلام حين قال: {فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان}، وفي اعتذار موسى عليه السلام للخضر عليه السلام في قوله: {لا تؤاخذني بما نسيت}، ومن هذا القبيل نسيان آدم عليه السلام كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}.

وقد شرع الله تعالى لنا ما يمكن أن نستدرك به بعض ما فرط منا بسبب النسيان كما في قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}، قال ابن سعدي:»الأمر بذكر الله عند النسيان، فإنه يزيله، ويذكر العبد ما سها عنه، وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله، أن يذكر ربه، ولا يكونن من الغافلين».

2- كما يرد النسيان في معرض ترك الإحسان المطلوب كما في قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، قال الطاهر بن عاشور:»وقوله: {ولا تنسوا الفضل بينكم} لزيادة الترغيب في العفو بما فيه من التفضل الدنيوي، وفي الطباع السليمة حب الفضل. فأمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل، ولا ينسوه؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه، فيضمحل منهم، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى ، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب ، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة «اهـ.

3- وقد يرد النسيان في موضع الذم والوعيد؛ لأنه ترك متعمد من الإنسان لما يجب عليه الأخذ به والامتثال له كما في قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}، قال الطاهر:»والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالبا، وقد جمعت الآية من الدلائل على قلة اكتراثهم بالدين ورقة اتباعهم»، قال ابن سعدي: «وهذا شامل لنسيان علمه، وأنهم نسوه وضاع عنهم ، ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه عقوبة منه لهم، وشامل لنسيان العمل الذي هو الترك، فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به،  فكل من لم يقم بما أمر الله به، وأخذ به عليه الالتزام، كان له نصيب من اللعنة وقسوة القلب، والابتلاء بتحريف الكلم، وأنه لا يوفق للصواب، ونسيان حظ مما ذُكِّر به، وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة، نسأل الله العافية.

ومثله قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلما بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون}،  قال ابن سعدي:»أي: تركوا ما ذكروا به ، واستمروا على غيهم واعتدائهم».

ومن هذا القبيل قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون}، قال الطاهر:»والنسيان منهم مستعار للإشراك بالله، أو للإعراض عن ابتغاء مرضاته وامتثال ما أمر به؛ لأن الإهمال والإعراض يشبه نسيان المعرض عنه».

وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}، قال الطاهر:»ومعنى نسيان ما قدمت يداه أنه لم يعرض حاله وأعماله على النظر والفكر ليعلم أهي صالحة لا تخشى عواقبها، أم هي سيئة من شأنها ألا يسلم مقترفها من مؤاخذة؟ والصلاح بين والفساد بين، والنسيان: مستعمل في التغاضي عن العمل، ومعنى «ما قدمت يداه»: ما أسلفه من الأعمال، وأكثر ما يستعمل مثل هذا التركيب في القرآن في العمل السيئ؛ فصار جاريا مجرى المثل، قال تعالى: {ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد}.

4- وقد يكون النسيان المذموم  بسبب الاشتغال بالمحرمات والمباحات حتى يهمل الإنسان الواجبات كقوله: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ}، قال ابن سعدي: «وهذا الذي أوجب لهم نسيان الذكر، اشتغالهم بالاستهزاء بهم، كما أن نسيانهم للذكر يحثهم على الاستهزاء، فكل من الأمرين يمد الآخر، فهل فوق هذه الجراءة جراءة؟!».

وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}، قال ابن سعدي: حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ اشتغالا بلذات الدنيا وإكبابا على شهواتها، فحافظوا على دنياهم وضيعوا دينهم، وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا، أي: بائرين لا خير فيهم ولا يصلحون لصالح، لا يصلحون إلا للهلاك والبوار، فذكروا المانع من اتباعهم الهدى وهو التمتع في الدنيا الذي صرفهم عن الهدى، وعدم المقتضي للهدى «  .

ومثله قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}، قال ابن سعدي: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} خصوصا المتعمدين منهم، {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} فلو ذكروه ووقع خوفه في قلوبهم، لم يميلوا مع الهوى الفاتن.

قال الطاهر:» أي بسبب نسيانهم يوم الحساب، والنسيان: مستعار للإعراض الشديد لأنه يشبه نسيان المعرض عنه.. وفي جعل الضلال عن سبيل الله ونسيان يوم الحساب سببين لاستحقاق العذاب الشديد تنبيه على تلازمهما؛ فإن الضلال عن سبيل الله يفضي إلى الإعراض عن مراقبة الجزاء»

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك