رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: سالم الناشي 22 أبريل، 2024 0 تعليق

الموصلي: الفهم الخطأ للدعوة يحولها من دعوة علمية تربوية ربانية  إلى دعوة انفعالية  صدامية جدلية

  • أخطر انحراف في تاريخ الدين الإسلامي على منهج الأنبياء هو التجزئة أن نؤمن ببعض ونكفر ببعض وإنما الواجب أن نتعامل بشمولية ونتعامل بالمعنى الجامع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم 
  • التصفية في حقيقتها وسيلة والتربية والتزكية غاية فإذا اعتنى الإنسان بالتصفية وأهمل التربية فقد اعتنى بالوسائل من غير طلب الغايات
  • لابد من الارتباط بهذه الدعوة ارتباط علوم لا ارتباط مواقف وارتباط مصالح لا ارتباط توجيهات
  • الدين يتصف بالشمولية وهو الكامل الصالح لكل زمان ومكان ولهذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم بمقاصد عظيمة كما أخبر الله تبارك وتعالى
  • التربية أساس لبناء الدعاة وطالب العلم لا يتمكن من الدخول في واقع هذه الدعوة إلا بالتوسع في المجال العلمي ويتهيأ تهيئة تربوية ليزكي نفسه لأنه مقبل على أمر عظيم
  • الدعوة تحتاج إلى فهم وتعليم ولذلك قال الله تعالى بعد التزكية {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي: يعلمهم ذلك تعليما مفصلا
  • التجربة المستندة إلى علوم الوحي وعلوم المنقول تساهم في بناء طلبة العلم في فهم الواجب وتصور الواقع
  • العلم يأتي بالخير حيثما كان وهذه ميزة لا تكون إلا له من ثم سواء كان مشاركا في مجال أم كان جزءا من بناء أم كان بناءً مستقلا فهو مطلوب
  • أسباب وقوع الخلاف وجود أزمة في فهم الدين وأزمة في تطبيقه والتحلي بأخلاقه وآدابه وفضائله وأزمة في فقه الاختلاف
   

(التصفية والتربية) كلمتان عظيمتان في دلالتيهما، عميقتان في معناهما، طالما دندن بهما محدث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في حواراته المنهجية ومجالسه العلمية، ومن عرف ما تحمله هاتان الكلمتان من أصول علمية ومعان شرعية ومفاهيم منهجية، عرف أنهما لم تأتيا من فراغ، وإنما كان ذلك من فهم عميق للكتاب والسنة، ومعرفة دقيقة بواقع المسلمين اليوم، وما يواجه المسلمين من الزحف العقائدي والفكري الكبيرين، وانتشار المذاهب الفكرية الهدامة التي شوشت عقول المسلمين وأفسدت عقائدهم وأفكارهم، حتى التبس علي كثير من المسلمين الحق بالباطل، حول هذه القضية المحورية وغيرها من القضايا؛ كان هذا الحوار مع المستشار بالوقف السني بمملكة البحرين الشيخ فتحي الموصلي.

  ذكر الشيخ العلامة الألباني -رحمه الله- أن الدعوة السلفية انشغلت بالتصفية عن التربية وهذا من السلبيات، فما تعليقكم على هذا؟ في البداية أتقدم بالشكر لهذه المجلة العريقة التي تميزت بالمنهجية والطريقة الوسطية والمعالجات التربوية، فأنا شخصيًا من المتابعين لا أقول لبعض وإنما لغالب أعدادها؛ لما أرى فيها من التوازن الدقيق بل هي الفرقان وهي الاستقامة على الفرقان، أسأل الله أن يجزي القائمين عليها خير الجزاء. أما بالنسبة للإجابة عن السؤال: فمما لا يخفاكم أن الدين يتصف بالشمولية، وهو الكامل الصالح لكل زمان ومكان، ولهذا جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقاصد عظيمة، كما أخبر الله -تبارك وتعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2)، هذه الآية في حقيقتها رسمت البعثة النبوية، وأوضحت معالمها أنها تلاوة وثناء، وتزكية وتربية، وإعداد وتعليم، وهذه المراحل لا تقبل التجزئة، وهي مراحل بعضها يكمل بعضها الآخر؛ ولهذا أخطر انحراف في تاريخ الدين الإسلامي على منهج الأنبياء هو التجزئة أن نؤمن ببعض ونكفر ببعض، أو نأخذ بعضا ونترك بعضا، وإنما الواجب أن نتعامل بشمولية وبالمعنى الجامع لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم .

قاعدة التخلية ثم التربية

       فالإسلام جاء بقاعدة التخلية ثم التربية التي عبر عنها الشيخ الألباني -رحمه الله- التصفية والتربية، فنحن ابتداءً لابد من تصفية الدين وتخليته عن الشوائب والمخالفات وأنواع الشرك وعن المنقولات الضعيفة أو الموضوعة، فإذا ما نقي الدين يبدأ المسلم بالتعبد بهذا الدين المنقى؛ ولهذا فإن التنقية والتصفية في حقيقتها هي وسيلة، والتربية والتزكية هي غاية، فإذا اعتنى الإنسان بالتصفية وأهمل التربية فقد اعتنى بالوسائل من غير طلب الغايات، وكما يقول العلماء: «الوسائل لا تقصد بذاتها وإنما هي طرائق يتوصل بها إلى تحصيل الغايات»؛ ولهذا غابت الغايات والمقاصد، وغاب المشروع، والكثير من الدعاة ظنوا أن الأمر يقتصر على القيام بتخلية الدين وتصفيته والاكتفاء بهذا حتى تحولت الدعوة في بعض جوانبها لا إلى دعوة علمية تربوية ربانية، وإنما إلى دعوة انفعالية صدامية جدلية؛ لأنهم اشتغلوا بالوسيلة.

الإقبال على الدعوة

       ولهذا الإقبال على هذه الدعوة لابد أن يكون إقبال مقاصد، وهذا معنى أن الآية جاءت بالتلاوة ثم التزكية ثم التعليم المفصل، بل إن التربية أساس لبناء الدعاة، وطالب العلم لا يتمكن من الدخول في واقع هذه الدعوة، بل يتوسع في المجال العلمي ما لم يتهيأ تهيئة تربوية ليزكي نفسه لأنه مقبل على أمر عظيم، والقاعدة: (إن الإنسان لا يتمكن من بلوغ الهداية إلا بنوع من المجاهدات)؛ ولهذا جاء تأكيد هذا المعني الراسخ في العهد المكي، وما ذكر في العهد المكي في الغالب يقصد به تأسيس القاعدة قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) «أي: أن الهداية والوصول إلى حقائقها لا تتأتى إلا بمجاهدة النفس، فأنت تبدأ أولا بالتخلية والتصفية لا لذات التخلية والتصفية، وإنما لتقف على حقائق هذا الدين بعد تخليته وتصفيته؛ لتقبل عليه إقبالا جامعا بقلبك إيمانا وتعظيما، وبلسانك اعترافا وتصديقا، وبجوارحك عملا وامتثالا أي: أنك تقرن العلم بالإيمان؛ ولهذا قال الله -تعالى-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، فقدم الله هنا الإيمان على العلم من باب تقديم الغايات.

إشكالية في فهم المنهج السلفي

       إذًا فهذه إشكالية في فهم المنهج السلفي والدعوة السلفية؛ لأنها مجرد تشخيص عند بعضهم أو تخلية، أو هي حالة من الانتقاد، ومن ثم صار طالب العلم يكثر من الخوض في مسائل الخلاف من غير علم بأصول الإجماع، وصار طالب العلم يعتني بالانتقاد أكثر من العمل بالاجتهاد، وصار أيضا طالب العلم ينتقد الخطأ لا لما اشتمل عليه من مفاسد، وإنما يكون قاصدا للمخطئ أكثر من الخطأ؛ لهذا دخلت الدعوة في منازعات وإشكالات انتقصت فيها معالمها، وضعفت فيها كلمتها بعد أن كادت هذه الدعوة -بعد عصر الأئمة الثلاثة وأقصد بذلك: (الشيخ الألباني، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين) رحمهم الله جميعا- أن تنتشر في الأرض، فصارت الاتجاهات الأخرى تلتمس أو تتقرب إليها ولو في الظاهر؛ لأنهم أدركوا أن رايتها مرفوعة وأن معالمها ثابتة ظاهرة، فلما انتقص بعضهم هذه المنهجية بدأت الدعوة تتحول من مرحلة الظهور والتمكين إلى مرحلة الخفاء، وهذا ما نراه اليوم حتى ظهرت بعض الدعوات الباطلة، وبدأت تنتشر أكثر من هذه الدعوة المباركة، وإنما وقع هذا الضعف بتقصير أتباعه الذين لم يتعاملوا معها بهذه الأصول والمقاصد. - كيف نعالج هذه القضية ولا سيما إذا أدركنا أن أثرها متعد على الواقع؟ - علاجها في أمرين:
  • الأول: الفهم الدقيق والنظر السديد لهذه الدعوة، فالدعوة اليوم لا تحتاج للتلقين فلا نأتي بالشباب ونقول هذه بدعة وهذه سنة وهذا شرك وتوحيد وهذا كفر وإيمان؛ فالدعوة تحتاج إلى فهم وتعليم؛ ولذلك قال الله -تعالى بعد التزكية-:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي: يعلمهم ذلك تعليما مفصلا، إذًا لابد من الاعتناء بالتعليم والتفهيم أكثر من اعتنائنا بالنشر والتلقين.
  • الثاني: لابد من الارتباط بهذه الدعوة ارتباط علوم لا ارتباط مواقف، وارتباط مصالح لا ارتباط توجيهات، بمعنى آخر نحن اليوم إذا أردنا أن ننشر هذه الدعوة المباركة فلا تنتشر إلا بتأصيل العلوم الشرعية ونشرها، فما الذي ميز الأئمة الثلاثة؟ وما الذي ميز شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وعلماء الأمة؟ اتصافهم بالعلم؛ حيث إنهم قدموا هذه الدعوة بطبق العلم والعمل لا بطبق القيل والقال والجدال؛ ولهذا استقرت تلك الدعوة بأصولها ومعالمها وحقائقها.

حال الدعوة وحقيقتها

       ثم إن الدعوة إذا قدمت بطبق العلوم يكون حالها كحال اكتمال العناصر في جسم الإنسان، فإن هذا هو الذي يمنع من حصول المرض؛ فالمرض يدخل على الإنسان بنقص عنصر من عناصره أو بزيادته أو وقوع اختلاف، فكذلك الدعوة اليوم لما تركنا التربية انتقصت دعوتنا، ولو تركنا الاعتناء بالسنة واعتنينا بالقرآن انتقصت دعوتنا؛ لأن هذا الدين لابد أن نقوم بجميع حقائقه معا، نعم فقد نتفاوت وقد نقدم شيئا بحسب الأولويات، ولكن لا يجوز إلغاء أصل من أصوله؛ ولهذا قال ابن القيم مقولة عظيمة تصلح لأن تكون منهجا في المعالجة التربوية، يقول: «ما ترك السني سنة إلا دخل عليه البدعي من موضع تركه للسنة»، وهذا تشبيه قدري كما أن الإنسان لو نقص عنده أي عنصر دخل إليه المرض من أي موضع من هذا الباب؛ لذلك لما تركنا التربية دخل أهل البدع علينا من موضع انتقاصنا للتربية ومن ثم صارت دعوتنا قائمة على ردود الأفعال.

أسباب الخلاف

وما يقع اليوم من اختلاف يصح أن نصفه تجاوز أرقام قياسية في تاريخ البشرية، لن يقع الاختلاف بين أهل الدين الصحيح بهذه النسبة كما هو الآن واقع؛ فسببه يرجع إلى أمور ثلاثة:
  • أولها: وجود أزمة في فهم فقه الاختلاف.
  • ثانيها: وجود أزمة في تطبيق الدين والتحلي بأخلاقه وآدابه وفضائله.
  • ثالثها: وجود أزمة في الاختلاف.
حيث اجتمعت هذه الصفات الثلاثة، وهي تعد مرضا نحتاج إلى علاجه حتى نحفظ هذه الدعوة في أنفسنا وفي واقعنا.
  • ما رأيكم في انصراف بعض طلبة العلم إلى تعلم العلوم الشرعية وعزوفهم عن العلوم الدنيوية الأخرى، ولا سيما وأنكم درستم في تخصص القانون والسياسة؟ وما مدى الحاجة إلى تأهيل كفاءات في مختلف العلوم؟
  • العلوم الشرعية في بنائها وإعدادها في الغالب ترتبط بالحاجة، ومن ثم كلما كانت هذه الحاجة كبيرة ومتنوعة، كانت الحاجة إلى التنوع في المجال العلمي أمرا مطلوبا، ولا سيما وأن التأصيل الشرعي في العلم منه ما هو فرض كفاية ومنه ما هو فرض عين، وبعض فروض الكفاية عندما يضيق بها الحال تتحول إلى فرض عين؛ ولهذا دائما التوجه العلمي والبناء العلمي وإعداد المؤسسات العلمية ترتبط بحاجة الواقع، وبقدرة المكلف على التعامل مع تلك الحاجات؛ لهذا الإقبال على الجامعات حقيقة في العلوم الشرعية ظاهرة إيجابية، وهذا التوجه مهم لكن لابد أن ينظر فيه أيضا إلى الجمع بين المصالح الدينية والمصالح الدنيوية، ومن ثم فطالب العلم ابتداءً لابد أن يأخذ بأسباب التمكين، وأسباب المعيشة في حياته، وإلا فإنه يورط نفسه في جملة من الضغوط الاجتماعية واليومية التي ربما تعيقه عن المواصلة، فلا بد من الأخذ بهذه الأسباب، ويبقى طالب العلم في المجتمع قويا، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اليد العليا خير من اليد السفلى» وهذا هو الأصل في هذا الباب.
ثم بعد ذلك لابد أن يقبل على دراسة العلوم الشرعية، ويجعل همه التأصيل العلمي والتمكن والرسوخ في علوم الشريعة، سواء كان ذلك في أغلبها أم كان متخصصا في بعضها، ثم لابد أن يتعامل بمنهجية علمية في طلب العلم. ثم بعد ذلك لابد أن ينظر إلى نواتج تحصيل العلم، سواء كانت في الجوامع أم حلقات العلم أم كانت الكليات والدراسات الأكاديمية على أنها وسائل، ويجب أن يتعامل معها تعامل الوسائل، فمن ميزة الدراسة الأكاديمية أنها تفتح الأنظار، وتجعل طالب العلم متسع الآفاق في التعامل مع العلم والواقع، ثم إن طالب العلم في هذه الجامعات يختلط ببعض زملائه ممن سبق له في ذلك تجارب غنية يحتاج إليها، ومن ثم فإن الدراسات الأكاديمية وسيلة من وسائل الارتقاء الواقعي والعلمي ولبناء التجارب، وحتى يتمكن طالب العلم من تنزيل العلم على الواقع ومن تطبيقه؛ بحيث لا يبقى هذا العلم نظريا في تطبيقه. فتتميز الدراسة الأكاديمية بهذا الاتساع، لكن هذا الاتساع يأتي بسلبية وهو غياب الضبط والدقة والتحقيق والتحرير في تحصيل العلم، وهنا يكمل هذا النقص الموجود في الدراسات الأكاديمية والدراسات الشرعية العلمية المتخصصة وهى التلقي من الشيوخ الثقات، ليكون تلقيه للعلم من الشيوخ هو في فهم العلم وضبطه وتقريبه، ولتكون الدراسات الأكاديمية في تطويره وتطبيقه ونشره، وإذا ما تكاملت الأمة وتكامل الدعاة في التعامل مع المجالين (التعامل الأكاديمي والتعامل الآخر) بأن أحدهما يكمل الآخر لا يكون أحدهما منافسا أو معاديا للآخر أو منتقصا من الآخر، عندها يكون طالب العلم قد تمكن في مجال الرسوخ العلمي علما وعملا، تنظيرا وتطبيقا، تأصيلا وتنزيلا وهذا ما نحتاج إليه في أن تكون الوسائل وهذه المؤسسات وهذه المجالات تجري على التكامل لا على التنافس والتقاطع.

فائدة مهمة جدًا

ثم هنا فائدة مهمة جدا وهي: أن طالب العلم في تعامله مع العلم يحتاج إلى ميدان تطبيقي؛ لأن طالب العلم تتقوى ملكته العلمية من الأمور التالية:
  • أولا: من دراسته بالعلم الشرعي.
  • ثانيا: من تأمله وتفكره.
  • ثالثا: من خبراته وتجاربه.
ولهذا فإنما يقع الإشكال في الأزمنة المتأخرة، عندما نرى معارف علمية مع التجارب الحياتية، فالداعية لابد أن يوازن بين التجربة الناضجة وبين المعرفة الثابتة، وهذا حقيقة ظاهر في الجيل الأول، بل حتى الأنبياء والرسل -عليهم صلوات ربي وتسليمه- من ينظر في سيرتهم يجد أن جزءا منها يدور في تلقي العلم وجزءا آخر هو محاكاة الواقع والارتباط والتجارب، حتى يقول موسى -عليه السلام- لنبينا -عليه الصلاة والسلام-: «إني أعلم بالناس منك، إني عالجتُ بني إسرائيلَ أشدَّ المعالجةِ، وإنَّ أمتكَ لن يُطيقوا ذلك»، لتكون نقل هذه التجربة النبوية سببا في تخفيف المعاناة على أمم.

أهمية التجربة

       إذًا فالتجربة المستندة إلى علوم الوحي وعلوم المنقول تساهم في بناء طلبة العلم في فهم الواجب وتصور الواقع، ولا يبقى طالب العلم نظريا وإنما يرتقي بهذا التطبيق العملي وبهذه التجارب الناضجة؛ ولهذا قد يتعذر أحيانا على طالب العلم أن يأتي بهذا الكمال أو بهذا التنوع فربما يوفق في الدراسة الأكاديمية آنذاك نخاطبه بخطابين نبويين: أما الأول- فنقول له: «كل ميسر لما خلق له»؛ فإن الكمال متعذرٌ ولاسيما في الأزمنة المتأخرة، وأحيانا محاكاة الواقع والتعامل مع الدعوة بمثاليةٍ زائدة من أسباب ضعفها، وإنما نقول: إذا تعذر تحصيل الجميع آنذاك يفعل ما يستطيع؛ فكل ميسر لما خُلق له. وتأتي القاعدة النبوية الثانية المهمة وهي: «سددوا وقاربوا»، فآنذاك يكون البناء العلمي هو حاجتنا إلى جميع هذا الميادين وضرورة وجود تكامل بينها وتغذية مشارب الدعاة منها والانتفاع من ضبط العلم وتحقيقه وتحريره، ثم مخاطبة الانسان أو مخاطبة الداعية أو تكليف الداعية بحسب استطاعته وبحسب مجالاته.
  • جزاك الله خيرا يا شيخ وبارك الله فيك، هذا يجعلني أسأل سؤالا آخر، وهو أننا الآن عندنا جامعات شرعية متخصصة وهناك كليات إسلامية ضمن بعض الجامعات، وهناك أيضا دراسات شرعية ضمن مناهج عامة، فأي ذلك أفضل؟ وهذا السؤال يتسحب أيضا على البنوك؛ فهناك بنوك إسلامية متخصصة، وهناك بنوك تتعامل بما يسمونه معاملات تقليدية وأيضا وفق الشريعة ولكن تحت إطار بنك عادي، فأيهما أفضل؟
  • نعم، العلم يأتي بالخير حيثما كان، وهذه ميزة لا تكون إلا له، من ثم سواء كان مشاركا في مجال أم كان جزءا من بناء أم كان بناءً مستقلا، فهو مطلوب، ومن ثم فإن هذه المجالات المهمة مطلوبة جميعًا، ولكن ينبغي أن يُختار لها ما يتناسب معها، فالإشكالية ليس في وجود هذه المؤسسات وإنما في الترشيح والانتقاء.
فعندنا إشكالية كبيرة في الدعوة، وهي عدم التفريق بين التعريف بالدعوة ونشرها، وبين الإعداد العلمي وتأصيله، فعندنا المخاطب في نظرنا يصلح لهذا وهذا، وهذا خطأٌ كبير، الشريحة الأولى وهي شريحة التعليم العام والتوجيه هذه شريحة للعامة، وينتقى من العامة طبقة خاصة تطلع على علوم الشريعة وطبقة أخص تتخصص فيها، ولهذا عندما يأتي الطالب يسأل عن مجال من المجالات نحن دائما نرسله الى الأعلى وإلى الأخص وقد لا يكون موفقا في هذا المجال.

لابد من وجود الانتقائية

       فلابد من وجود الانتقائية ومن وجود الاختيار الصحيح المناسب ومن تعيين الشريحة المستهدفة؛ لأنه في باب العلم والدعوة القرآن بين أنهما مبنيان على التصنيف { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، هنا خطابات ثلاثة، لكن في الحقيقة هي شرائح ثلاثة من الناس، الحكمة توجه لشريحة، والموعظة الحسنة لشريحة أخرى، أما المجادلة فهي لشريحة ثالثة من الناس، فعندما آتي أنا وأخاطب كل الشرائح بكل تلك الأساليب مجتمعة هنا يحدث تداخل في الدواء؛ لأن الأصل أن أختار الحكمة لصنف من الناس وهكذا؛ ولهذا فما تفضلت به من ذكر هذه الشرائح نستفيد منه أن لكل مجال هناك شريحة خاصة وله أهلية خاصة وتأهل خاص، فمثلا المقبل على الدراسات الإسلامية لابد وأن يُقابل ولا يعتمد فقط على التقييم الدراسي؛ لأنه قد لا يعكس ملكة الإنسان ورغبته وإمكانياته في المواصلة، وإنما يُقابل ويستظهر من المقابلة الجوانب المهمة في بنائه وحاجته حتى يرشح إلى مجالٍ من هذه المجالات، ومن ثم سيكون فاعلا؛ لأن بعض الناس لا يصلح له إلا أن يكون في مجال العلم، وآخر يمكن أن يجمع بين العلم والحياة الدنيا، وثالث لا يصلح إلا في مجاله الحياة الدنيا مع الحاجة إلى مهمات العلم، فإذًا هذا التصنيف هو منهج قرآني متبوع ومسلوك، لكننا نرى اليوم شيئا من العمومية في الاختيار وعدم التصنيف؛ لذا نجد أن إنتاج هذه المؤسسات لا يكون فاعلا ودقيقا؛ لأن المدخلات إليها لم تكن متينة ودقيقة.  

فائدة تتعلق بالمؤسسات الخيرية

       يجب على المؤسسات الخيرية العمل على إعداد طلبة العلم وإعانتهم على مواصلة دراستهم ومشاريعهم العلمية، حتى كان المعهود قديمًا من الوقف ومن الصدقات بل حتى من الزكوات هو الاعتناء بكفالة طلاب العلم، وبإعانتهم في مشاريعهم، بل إن الاعتناء برجل يُحتاج إليه أفضل من الاعتناء برجل هو يحتاج إلى الصدقة؛ لهذا كان عطاء أهل الحاجات العامة مقدما في شريعتنا على عطاء أهل الحاجات الخاصة، وقد أصل شيخ الاسلام هذه المسألة وبينها وفصلها في غير موضع من كتبه؛ ولهذا حتى يحصل التكامل بين التعامل مع المؤسسات والمجالات الأكاديمية وكذلك العلمية والشرعية، لابد من تحريك الوسائل المادية والحسية في خدمة هذا المشروع حتى تتكامل المؤسسات الدعوية والمؤسسات الخيرية في هذا المجال.

مفهوم (التصفية والتربية)

        (التصفية والتربية) كلمتان عظيمتان في دلالتيهما، عميقتان في معناهما، طالما دندن بهما محدث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في حواراته المنهجية ومجالسه العلمية، ومن عرف ما تحمله هاتان الكلمتان من أصول علمية ومعان شرعية ومفاهيم منهجية، عرف أنهما لم تأتيا من فراغ، وإنما كان ذلك من فهم عميق للكتاب والسنة، ومعرفة دقيقة بواقع المسلمين اليوم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك