رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: رضا عبد الودود 30 سبتمبر، 2010 0 تعليق

الفوز السادس للحزب يضع تركيا على أعتاب دستور جديد-(العدالة) يقضي على الأتاتوركية والعلمانية بـ«إرادة الشعب»

 

بعد معركة دستورية وسجال سياسي محتدم نجح حزب العدالة والتنمية في تمرير خطته للإصلاح الدستوري والسياسي بمواجهة العلمانية التركية، متسلحا بسلسلة من الإنجازات السياسية والاقتصادية على أرض الواقع نالت استحسان المواطن التركي الذي انحاز 58٪ منه إلى التعديلات الدستورية التي اقترحها أردوغان، الذي كان أكثر استشعارا بمواطنيه حينما تعهد باستعداده التام للتنحي عن الحكم إذا فشل في تمرير التعديلات.. وكان الشعب عند حسن توقع قائده بنِـسبة مشاركة قياسية ناهزت 78٪  من الناخبين، وهي نسبة تفوق كل نِـسب الاستفتاءات والانتخابات السابقة في البلاد.

وقد قوبلت تلك النتائج بموجة من الترحيب العالمي تناقلته الصحافة العالمية، حيث أشادت صحيفة (جارديان) بنتائج الاستفتاء ووصفته بأنه ثورة صامتة في بلد تاريخه مملوء بالضغوط والانقلابات العسكرية، فيما ذهبت صحيفة (دي ولت) الألمانية إلى أن ما حدث خطوة مهمة من أجل التحديث في تركيا، وأن تركيا الآن في طريقها لأن تصبح قوة عظمى في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، وأن الأتراك أصبحوا متقدمين عن كل دول البحر المتوسط.

وعلى عكس الترحيب الأمريكي والأوروبي الواسع بنتائج الاستفتاء، أعربت وسائل إعلام إسرائيلية عن قلقها من تبعاته، ومنها صحيفة (هاآرتس) التي قالت: إن النتيجة تعني أن عهد الانقلابات العسكرية انتهى- ومعروف عن إسرائيل تأييدها للانقلابات السابقة- لافتةً إلى أن هذا مؤشر على زيادة شعبية حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية الذي جعل تركيا «واحدة من أكثر دول العالم نفوذاً وثراءاً واستقراراً وديمقراطية».

تصحيح أخطاء الماضي ورسم للمستقبل

هذه التعديلات الإصلاحية لن تؤدي إلى تعزيز المستقبل الديمقراطي لتركيا فقط، وإنما إلى تصحيح أخطاء الماضي، ووضع حد لسطوة المؤسسة العسكرية، وهيمنتها على دوائر صنع القرار تحت ستار كاذب اسمه الحفاظ على مستقبل العلمانية، الآن سيعود العسكريون إلى ثكناتهم بعد أن بات محظورا عليهم، وبمقتضى الدستور، التدخل في العملية السياسية، وقمع الإرادة الشعبية، وحكم صناديق الاقتراع.

أردوغان اجتاز اختبارا صعبا، كان سيؤدي الفشل فيه إلى إنهاء زعامته السياسية، وربما حزب «العدالة والتنمية» الذي يتزعمه، ولكنه بإصراره على إجراء هذا الاستفتاء رغم التحذيرات والعقبات والتكتلات المعارضة وشراستها في تعبئة المواطنين الأتراك ضده، حقق تحولا تاريخيا سيغير مسار العملية السياسية وربما مستقبل تركيا؛ حيث  سيدخل أردوغان الانتخابات البرلمانية في يوليو 2011  وهو أكثر ثقة، وقد بات يملك تأييدا شعبيا كافيا لتشكيل حكومة من حزبه فقط، ودون الاستعانة بأي وزراء من الأحزاب الصغيرة الممثلة في البرلمان.

الشعب التركي أعطى أردوغان هذا التفويض الكبير لميوله الإسلامية المحافظة بجانب إنجازاته الاقتصادية الكبرى على الأرض؛حيث باتت تركيا تحتل المرتبة السادسة عشرة على سلم ترتيب الاقتصاديات الأقوى في العالم، وأصبحت دولة أساسية في نادي الدول العشرين، وتزحف بثقة لتصبح عضوا في مجموعة الدول الثماني، وقد حقق أردوغان هذا الإنجاز التاريخي بسياساته الذكية الداخلية والخارجية، وتصالحه مع جميع جيرانه على أساس المصالح المشتركة، وتسوية الخلافات بالحوار، ووضع مصلحة تركيا فوق ما عداها، والوقوف إلى جانب قضايا الحق، والتصدي للغطرسة الإسرائيلية وحصارها الظالم لقطاع غزة.

ولعل النجاح الأكبر الذي يحسب للعدالة والتنمية تعامله الذكي مع الملفات الشائكة التي أربكت الساحة الداخلية لسنوات عديدة؛ فقد حصل الأكراد على الكثير من الحقوق،  حيث عمل أردوغان على تخفيف المشكلات التي يعانيها الأكراد.

مغزى الإصلاحات

تبرز قيمة الاصلاحات، التي قدّمها حزب العدالة والتنمية قبل ثلاثة أشهر إلى البرلمان، وفشل في تمريرها بغالبية الثُّـلثيْـن، فدفع بها إلى الشارع، حيث «الكلمة الأخيرة للأمة» وِفقا للشِّـعار الذي رفعته الحكومة، وهو شعار اشتهَـر به في الخمسينيات رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس، الذي أعْـدِم عام 1961 في أول انقلاب عسكري شهدته تركيا الكمالية- تبرز تلك القيمة في أنها تغلب الطبيعة المدنية للنِّـظام على العسكرية السابقة، وتضع الخيار الديمقراطي في مواجهة الخِـيارات الانقلابية وغيْـر الشرعية. وقد لخص رئيس الحكومة الموقف حينما قال في «خطاب النّـصر» الذي ألقاه مساء الأحد 12 سبتمبر أمام حشد من أنصاره بأن «حِـقبة الوصاية العسكرية انتهت وأن المفهوم الانقلابي قد هُـزم.. الإصلاحات التي أقرّت، كانت مكسبا لكل تركيا وليست فقط لحزب العدالة والتنمية، انتصرت تركيا بانتصار الخيار الديمقراطي للشعب».

والأهم من ذلك أن الإصلاحات طالت أيضا بنية مجلس القضاء الأعلى، أي الترفيع في عدد أعضائه من 17 إلى 22 عضوا، وهو المجلس الذي كان يتحكّـم في القُـضاة ويتدخّـل في عملهم ويطرد مِـن دون أي وجه حقّ أو اعتراض القُـضاة الذين يتعارضون مع توجّـهاته، بجانب القضاء العسكري الذي لم يعُـد من مهمّـته حصريا محاكمة العسكريين، حيث أصبح ذلك من صلاحيات المحاكِـم المدنية في حالات لا تتعلّـق بمُـخالفات عسكرية داخلية، إضافة إلى ذلك، لم يعد لمجلس الشورى العسكري الأعلى، حرية التصرّف بطرد الضبّـاط والجنود من الجيش، من دون أي مراجعة. وأصبح للمطرودين الحقّ باستئناف قرار طردِهم أمام المحاكم المدنية، (يقدر عددهم  بالمئات).

ولم يعد للمُـدّعي العام الحقّ برفع دعوى إغلاق الأحزاب أمام المحكمة الدستورية؛ حيث أصبح ذلك يتطلّـب موافقة مجلس النواب.

الصراع العلماني الإسلامي

الأحزاب العلمانية ترى أن التعديل الدستوري هدفه تحقيق المزيد من أسلمة الدولة والمجتمع عبر إلغاء الإمكانية القانونية لإغلاق حزب العدالة والتنمية, وهو ما قد يقود إلى تداعيات خطيرة حسب رئيس حزب الشعب الجمهوري العلماني دينز بايكال, بل إن بايكال ذهب إلى حد  التحذير والتهديد من استمرار حزب العدالة والتنمية في مساعيه لتعديل الدستور, وهو تحذير قال البعض عنه: إنه يشكل دعوة صريحة للجيش للقيام بانقلاب عسكري في حال أصرّ حزب العدالة والتنمية على التعديلات الدستورية، هذه الحالة الجدلية المشبعة بروح التحريض والاستعانة بالظهير المسلح كانت تعبيرًا صادقًا عن الحالة العلمانية التى تعاني من ضعف غير خاف على أحد بسبب عدم قدرتها على تنظيم صفوفها وإعادة النظر فى خطابها... كما أنها لم تثنِ أردوغان عن المضي قدمًا في إصلاحاته التي رأى أنها إضافة إلى كونها تعبيرًا عن التطورات الجديدة التي ألمت بالمجتمع التركي فإنها في الوقت ذاته تقرب المسافات بين تركيا وبين نظرائها الأوروبيين، كما أنها خطوة جادة على طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

ما بعد الاستفتاء

ورغم أهمية الإنجاز تبقى أمام أردوغان العديد من التحديات، الداخلية والخارجية..منها:

- المسألة الكردية : حيث أعلن الأكراد مقاطعتهم للاستفتاء الذي جرى، وأعلن حزبهم «السلام والديموقراطية» أن المقاطعة كانت جيدة (هي لم تكن عالية كما توقع الأكراد) وأن الهدف الأساسي للأكراد هو الحصول على حكم ذاتي وليكن الحكم الذاتي لمقاطعة «الباسك» في إسبانيا هو النموذج المقترح. ويريد الأكراد أن يدخلوا ضمانة الاعتراف بهويتهم في الدستور الجديد، وهذا أمر ليس سهلاً على الإطلاق أن يقبل به أردوغان من دون عدم استبعاد إمكانية الوصول إلى حل «خلاق».

-المسألة العلوية : تخص كتلة كبيرة لا تقل عن 16 إلى 20 مليوناً. وهؤلاء يطالبون بالاعتراف بهم على أنهم أقلية علوية لهم هويتهم ومعتقداتهم ومراكز عبادتهم الخاصة بهم، مثلهم مثل أي أقلية مذهبية أخرى. وأيضاً ليس سهلاً على أردوغان القبول بذلك، وليس أمامه من حل سوى الاعتراف الكامل بالمطالب العلوية التي نصت عليها التقارير الأوروبية، وهي من الشروط الإلزامية من جانب الاتحاد الأوروبي لقبول تركيا عضواً في الاتحاد.

-مسألة إعطاء المسيحيين بعض مطالبهم: مثل الاعتراف بمسكونية (عالمية) بطريركية الروم الأرثوذكس في إسطنبول وإعادة فتح مدرسة الرهبان في جزيرة هايبلي قرب إسطنبول.

-اجتثاث ما تبقى من نظام الوصاية العسكرية: ومن أهم الخطوات على هذا الصعيد هو إلغاء المادتين 35 و85 من نظام الخدمات الداخلية للجيش، التي تحدد مهمة الجيش بالحفاظ على النظام العلماني وحمايته ولو اضطر الأمر لاستخدام السلاح.

معارك معلنة

بجانب تلك التحديات يبقى أمام أردوغان وحزبه ثلاث معارك معلنة، وهي:

- وضع دستور جديد للبلاد، فقد أعلن أردوغان، أن حزبه لا يكتفي بالتعديلات الـ 26 على الدستور الحالي، ولكنه يعد لتغيير الدستور كاملاً واستبداله بدستور مدني جديد.

- تحويل نظام حكم الدولة إلى النظام الرئاسي بدلاً من النظام البرلماني الحالي، فقد نقلت صحيفة (حريت) تصريحاً صحفياً لأردوغان قال فيه: «نحن سنعمل على أن تتحول تركيا إلى النظام الرئاسي بدل البرلماني، وقد يتطلب الأمر أن نعرض هذا في استفتاء شعبي إذا لزم الأمر». ورداً على مخاوف المعارضة التي تقول: إن النظام الرئاسي يعني أنه سيعيد نظام الخلافة التوريثي ويلغي سلطة البرلمان، استشهد أردوغان بنجاح وديمقراطية النظام الرئاسي في الولايات المتحدة قائلاً: «إن الكونجرس الأمريكي نفوذه واضح في القرارات الرئاسية، فالرئيس الأمريكي لا يمكن مثلا أن يبيع قطعة سلاح واحدة للخارج بدون إذن الكونجرس».

- الانتخابات العامة التي لم يبق أمامها سوى 10 أشهر، وهي إما أن تثبت حزب العدالة منفرداً بالسلطة للمرة الثالثة على التوالي- وهو ما لم يحدث من قبل في تاريخ الدولة- وإما أن يفوز بنسبة ضئيلة تجبره على التحالف مع أحزاب أخرى لتشكيل الحكومة، وإما أن تحدث المفاجأة ويفقد السلطة.

والانضمام للاتحاد الأوروبي لم يعد الخيار الوحيد المتاح أمام الأتراك، بل إنه بات خيارًا جيدًا من بين خيارات عدة أخرى استطاعتْ أنقرة أن تصنعها وتضعها على المائدة، ورغم أن حكومة أردوغان تؤكِّد بشدة تمسكَها بالحصول على عضوية كاملة في «الاتحاد الأوروبي»، رافضةً الصيغ الفرنسية والألمانية بمنحها «مكانة متميزة» لكن دون العضوية الكاملة، إلا أن كافة المؤشرات تشير إلى أن أنقرة لم تعدْ تتعامل مع الأمر باعتبارِه مسألةً «مصيرية»، وأن تشديد أردوغان ورفاقه المتكرّر على تمسكِهم بالحلم الأوروبي يرجع إلى سببين: الأول إزالة شكوك الغرب تجاه ما يعتبرها «ميولًا إسلامية» دفينة لدى «العدالة والتنمية»، وسوف تتزايد هذه الشكوك إذا ما أعطى أردوغان ظهرَه لأوروبا والغرب، أما الثاني فهو استخدام ورقة «المعايير الأوروبية» لإبعاد يدِ الجيش عن الحياة السياسية بشكلٍ كامل، وتمرير مشاريع تعزيز الحريات وحقوق الإنسان بما يقلِّص قبضة النُّخَب العلمانية على التعليم والقضاء والإعلام، وغيرها من أوجُه الحياة في تركيا.

ختاما لابد من الاعتراف بأن خطة الإصلاح التي تحقّـقت لم تأت من فراغ، بل سبقتها خطوات إصلاحية عديدة منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في نهاية عام 2002. وهو ما يعني أن الإصلاح مسار يتحقق بالتدريج، خصوصا في بلد كان مُـكبّـلا بالسياسات الاستِـبدادية والمتطرِّفة للعسكر وفريق من غلاة العِـلمانيين؛ لذا فإن ما هو مطلوب من أردوغان بعد استفتاء 12 سبتمبر، سيكون كبيرا وذلك بعد تحقيقه 6 انتصارات سياسية متتابعة –تعظم من تبعات المرحلة المقبلة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك