الغفور الحليم(2-6)
طلبت إلىَّ الإدارة الثقافية لمنطقة مبارك الكبير عمل دروس أسبوعية في (الأسماء الحسنى)، رغم أن المسجد الذي كلفت بعمل المحاضرات فيه كان تحت الترميم -ربما لم يكن من أعد الجدول على علم بذلك- إلا أنني التزاما بوعدي أديت المطلوب.
بعد أداء المحاضرات التي كانت كل يوم اثنين، وفي طريق عودتنا لأداء صلاة العشاء في مسجدنا.
- أحدنا يزداد إيمانا وعلما بتدبره للأسماء الحسنى.
- لاشك في ذلك، بل لا شيء يزيدك إيمانا مثل تدبر أسماء الله الحسنى، وفهم معانيها، والعمل بمقتضاها، وأن تعبد الله بجميع أسمائه الحسنى، لا تترك شيئا منها.
- كما ذكرت في المحاضرة ينبغي أن يتدبر العبد الآية التي ختمت باسمين من الأسماء الحسنى حتى يعرف المناسبة.
بعضها يبعث الحياء من الله، وبعضها الخوف من الله، وبعضها تعظيم الله وتمجيده، وبعضها الثناء على الله، وهكذا.
مثلاً (الغفور الحليم) ماذا نطلب بعد، إذا كان ربنا غفوراً حليماً؟ ألا ينبغي أن نستغفره ونرجع إليه؟
- اقترن (الغفور) بـ(الحليم) ست مرات، أربع مرات أتى (غفور حليم)، ومرتين (حليم غفور)، والآيات التي نريد هي: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(البقرة: 225)، {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيْمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِيْ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُوْنَهُنَّ وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوْهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُوْلُوْا قَوْلاً مَعْرُوْفًا وَلاَ تَعْزِمُوْا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوْا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِيْ أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوْهُ وَاعْلَمُوْا أَنَّ اللهَ غَفُوْرٌ حَلِيْمٌ}(البقرة: 235)، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(آل عمران: 155)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(المائدة: 101)، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}(الإسراء: 44)، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}(فاطر: 41).
ولو تدبرنا هذه الآيات الست، لوجدنا أن (الحليم) سبق (الغفور)، في الآيات التي ليس فيها ذكر لذنب بعينه، أما الآيات التي أتى فيها (الغفور) قبل (الحليم) ففيها ذكر وتحذير وتنبيه إلى بعض القضايا، مثلا الآية (225) من سورة البقرة في ذكر الأيمان (الحلف) والآية (235) فيها تحذير من التصريح بالنكاح في العدة، وآية آل عمران فيها ذكر لذنب من تولوا يوم أحد، وآية المائدة فيها تنبيه لعدم السؤال عن كل شيء.
صاحبي من المعجبين بكتب (ابن القيم) رحمه الله؛ لذلك خزن جميع كتبه على هاتفه الذكي.
- دعني أقرأ لك هذه الفقرة لشيخي (ابن القيم).
«ومنها شهود حلم الله -سبحانه وتعالى- في إمهال راكب الخطيئة، ولو شاء لعاجله بالعقوبة، ولكنه -سبحانه- (الحليم) الذي لا يعجل؛ فيحدث ذلك للعبد معرفة ربه باسمه الحليم ومشاهدة صفة الحليم والتعبد بهذا الاسم، ويقول بعد بضعة أسطر:
«وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي علمها الله لخلقه؛ فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر»، كمن يحجبه التعبد باسمه الجبار عن التعبد باسمه الغفور، أو التعبد باسمه الرحيم عن التعبد باسمه المتكبر، أو التعبد باسمه الودود عن التعبد باسمه العلي العظيم.
وهكذا.
- ما أجمل ما يكتب شيخنا - وليس شيخك فقط - ابن القيم، وماذا عن تفسير بعض هذه الآيات؟ يقول ابن القيم في (جلاء الأفهام): فلما ذكر -سبحانه وتعالى- التعريض بخطبة المرأة الدال على أن المعرض في قلبه رغبة فيها ومحبة لها، وأن ذلك يحمله على الكلام الذي يتوصل به إلى نكاحها ورفع الجناح عن التعريض وانطواء القلب على ما فيه من الميل والمحبة ونفي مواعدتهن سرا، فقيل: هو النكاح والمعنى: لا تصرحوا لهن بالتزويج إلا أن تعرضوا تعريضا وهو القول المعروف.
{واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} أن تتعدوا ما حد لكم فإنه مطلع على ما تسرون وما تعلنون، ثم قال: واعلموا أن الله غفور حليم لولا مغفرته وحلمه لعنتم غاية العنت، فإنه -سبحانه- مطلع عليكم، يعلم ما في قلوبكم، ويعلم ما تعملون، فإن وقعتم في شيء مما نهاكم عنه فبادروا إليه بالتوبة والاستغفار فإنه الغفور الحليم.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وسلم .
كلهن في القرآن يسألونك عن المحيض، يسألونك عن الشهر الحرام، يسألونك عن اليتامى، ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم، قال أبو عمر: ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث.
قلت: ومراد ابن عباس بقوله ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة، المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبين لهم أحكامه بالسنة لا تكاد تحصى، ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات، ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها، بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به، فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم.
وقوله: (عفا الله عنها) أي عن بيانها خبرا وأمرا، بل طوى بيانها عنكم رحمة ومغفرة وحلما والله غفور حليم، فعلى القول الأول عفا الله عن التكليف بها توسعة عليكم، وعلى القول الثاني عفا الله عن بيانها لئلا يسؤكم بيانها. وقوله: (قد سألها قوم من قبلكم، ثم أصبحوا بها كافرين)، أراد نوع تلك المسائل لا أعيانها أي قد تعرض قوم من قبلكم لأمثال هذه المسائل؛ فلما بينت لهم كفروا بها فاحذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له ولم ينقطع حكم هذه الآية، بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه، بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله، ومن ههنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ياصاحب الميزان لا تخبرنا لما سأله رفيقه عن مائه أطاهر أم لا؟ كذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره فلعله يسوؤه إن أُبدي له .
لاتوجد تعليقات