رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 5 أغسطس، 2010 0 تعليق

العمــــل الخيـــــري في فلســـــــــــــــــــــطين.. تحديات وآمال

 

 
الحديث عن العمل الخيري في  فلسطين حديث ذو شجون تختلط فيه العزة بالألم، والفقه بالتاريخ، وعظمة السلف وما اقترفته أيدي الخلف؛ حديث عن تاريخ عظيم لم تشهد له البشرية مثيلاً، بلغ فيه المسلمون ذروة السمو والإخلاص لله تبارك وتعالى، أقاموا أوقافا لكل وجوه الخير التي تعدت حاجة الإنسان إلى حاجة الحيوان والنبات.. تكافل ورعاية وحضارة لم يعرفها غرب ولا شرق حتى اليوم.

وقد كان أول الأوقاف وأعمال الخير في بيت المقدس هو المسجد الذي بناه أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ حيث كان المسجد يتسع لثلاثة آلاف من المصلين، وجاء في «أحسن التقاسيم للمقدسي» أن من عناية عثمان بن عفان - رضي الله عنه- في القدس أنه أمر في خلافته بوقف قرية سلوان المجاورة للقدس ذات العيون والحدائق على ضعفاء المدينة المباركة .

 

واستمرت الأوقاف في فلسطين والقدس في القرون الأولى وما بعدها من قرون، فكان البناء الأموي للمسجد الأقصى ولمسجد قبة الصخرة . وأوقفت بعدها السبل والتكايا والمستشفيات ودراسة الطب والآبار والمساجد والمدارس والمعاهد، بل أوقفت الأوقاف للصرف على طلاب العلم ومدرسيهم وإيواء الطلبة والوافدين وإطعامهم وكفالتهم بمبالغ نقدية تدفع لهم، وأوقاف للمقابر، وكفالة العجائز «الأرامل» ممن شددن الرحال إلى المسجد الأقصى وانقطعن هناك بعد وفاة زوجها.

وكان الوقف في القدس وفلسطين يقوم بما تحمل أعباءه عدة وزارات مجتمعة كوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، والصحة والتربية والتعليم العام، والإسكان والتعمير والدفاع والري فضلا عن وزارة الأوقاف .

 

الاحتلال البريطاني

وبداية المشروع

عندما تبنت بريطانيا المشروع الصهيوني بإقامة وطن قومي لليهود وإلغاء حقوق أهل فلسطين في أرضهم والحلول مكانهم في الفترة بين 1917م و 1948م، كان الهدف الأول للاحتلال البريطاني دعم إقامة المؤسسات المدنية الصهيونية ودعم العصابات المسلحة وتدريبها وتوفير العتاد لها، وتفعيل دور اللجان الطوعية والمجتمعية، وفي المقابل كان العمل على تدمير العمل المؤسسي الفلسطيني وفي مقدمتها الأوقاف الإسلامية في القدس وفلسطين؛ حيث أتْبعت الأوقاف والمحاكم الشرعية لدائرة العدل والقضاء التي يرأسها مستشار قضائي "المستر بنتويش" وهو يهودي ومن رجال الحركة الصهيونية الأقحاح. 

ورافق ذلك تدمير العمل المؤسسي الفلسطيني، وعرقلة جميع المؤتمرات والاجتماعات التي عبرت عن رفضها لوعد بلفور ولقرار الانتداب وللمشروع الصهيوني، ولاحقت كل القيادات الإسلامية وتجمعاتهم ومؤسساتهم وكل من التف حولهم، وطاردت العمل الجهادي ضد مشروعها على أرض فلسطين، وعمدت القوات البريطانية إلى إعدام أي مقاوم للتواجد اليهودي والبريطاني في فلسطين.

ووقفت بريطانيا – كما هو ديدن الاحتلال والاستعمار في المنطقة العربية - موقفا عدائياً من جميع المجالس والهيئات الفلسطينية ، وكان أبرزها الموقف من المجلس الإسلامي الأعلى الذي انتخبه الفلسطينيون لإدارة المحاكم الشرعية والأوقاف والشؤون الإسلامية في فلسطين عام 1922م ، فلاحقت رئيسه محمد أمين الحسيني لعرقلة جهوده في الدفاع عن فلسطين وتبيان حقيقة المشروع البريطاني وتمكينهم لليهود لإقامة كيانهم على تلك الأرض المباركة .

وتدخل البريطانيون في الأوقاف وعملوا على إضعافها والتدخل في شؤونها وإضعاف دخلها، ولكنهم لم يستطيعوا تأميم الأوقاف كما  فعل محمد علي باشا في عام 1224هـ حينما أمم العمل الخيري بتأميم الأوقاف والمساجد وأنظمتها، وذلك بمشورة بعض الخبراء الفرنسيين، وأصبحت الأعمال الخيرية مرسَّمة وتابعة للدولة على حساب الأمة.

وبهذا التأميم والترسيم أُعطيت الأعمال الخيرية فضول المواقع الإدارية والأوقات والأموال لتعطي فضول النتائج ، وأصبحت بذلك الأوقاف والمؤسسات الإسلامية وبيوتات المال تعاني العجز والإهمال وعبئا على الدولة، بعد أن كانت على مدى 12 قرناً من الزمان قوة مساندة للأمة ، تقف في مواجهة النوازل والنكبات، وهكذا فعل الفرنسيون في الجزائر. 

 وردا على تأسيس المجلس الإسلامي أصدرت بريطانيا في 1922م كتابا أبيض اشتمل على "دستور" فلسطين الذي نص على تشكيل مجلس تشريعي لفلسطين من  22 عضواً ، منهم 10 إنجليز و8 مسلمين و3 مسيحيين و2 من اليهود على أن يكون المندوب السامي رئيساً للمجلس !! 

ومع ذلك أوقفت العديد من الأوقاف من المسلمين في فلسطين  على أن يصرف ريعها على وجوه الخير وقد جمعها عارف العرف في كتابه «تاريخ القدس المفصل».

 

العمل الخيري

المعاصر في فلسطين

العمل الخيري المعاصر في فلسطين –بوصفه عملاً مؤسسياً- عمل- كانت بداياته منذ العشرينيات من القرن العشرين، عندما كانت الحاجة شديدة في ظل ضعف الدولة العثمانية وسيطرة بريطانيا على المنطقة وسماحها لليهود بامتلاك الأرض ومصادر الحياة المختلفة؛ مما رفع نسب الفقر والبطالة بين السكان الأصليين، وأجبر العديد منهم على الهجرة.

ومع اشتداد الأزمة واندلاع ثورة العام 1936م انتشرت مظاهر العوز والجوع بين الفلسطينيين؛ بسبب سلب عصابات اليهود للأرض الفلسطينية وملاحقتهم للقرويين ومحاصيلهم؛ مما استدعى قيام أشخاص بنشاطات خيرية تعد شكلا من أشكال العمل الخيري على مستوى المناطق والأحياء لمساعدة الأسر المعوزة وكان لأئمة المساجد والخطباء الدور الريادي في ذلك.

ومع حلول نكبة العام 1948م وهجرة مئات آلاف الفلسطينيين من ديارهم وانتقالهم للإقامة فيما تبقى من الأرض الفلسطينية «الضفة الغربية وقطاع غزة»، زادت معاناة آلاف الأسر؛ بسبب فقدانها مصدر رزقها الأساسي وهو الأرض وما عليها من محاصيل، وشكلت لجان لمساعدة اللاجئين واستيعابهم في الأرياف وضواحي المدن وتجميع المساعدات لهم. وانطلقت تلك اللجان التي حملت الطابع الشعبي في مراكز المدن الرئيسة ومنها مدينة نابلس؛ حيث ساعدت الكثير من الأسر في إيجاد مأوى ملائم وتوزيع الأغطية عليهم، ولاسيما أن ما قدمته وكالة الغوث الدولية لم يكن كافيا حينها في توفير كافة مستلزمات المهجرين.

وخلال الفترة من 1948م حتى 1967م نشطت لجان الزكاة وانتشرت وأصبح لها وجود في كل المدن وحتى الأرياف والمخيمات وسجلت نجاحات كبيرة أثلجت صدور آلاف الأسر التي استفادت من عطائها، وكانت تلك اللجان الزكاة تتمركز في مسجد تاريخي في المدينة القديمة، ويأتي التمويل بشكل كبير من الأثرياء المسلمين المقيمين في الجوار كالتزام منهم بفريضة الزكاة، ولكن يأتي أيضا من عائدات بعض أوقاف العقارات وهي أموال تم التبرع بها لفائدة لجان الزكاة.

وخلال المرحلة الثانية من 1968م -1994م طوّرتْ اللجان نشاطاتِها: التعهد بأعمال خيرية مختلفة ومشاريع الجالية، ويبدأ ذلك بتأمين الأموال الخارجية من الهيئات مثل الحكومة الفرنسية والبنك العالمي، وكذلك تستثمر أموالها الخاصة للمستقبل.

وفي المرحلة الثالثة، من سنة 1994م إلى اليوم، عاشت الساحة الفلسطينية تنافسا بين الجمعيات الخيرية الإسلامية ومنها الزكاة وبين منظمات أخرى موجودة وأخرى ولدت حديثا. وقد وصفت 39% من منظمات المجتمع المدني الفلسطيني نفسها، على أنها «جمعيات خيرية»، بينما اختارت 36% منها وصف «منظمات مدنية»، و14% منها «منظمات وطنية»، و10% منها «اتحاد عام».

وصعّد الكيان الصهيوني ومؤسساته الحرب على المؤسسات الخيرية وجمّد في عام 96 أموال "لجنة الإغاثة الإسلامية" التي تقوم بجمع التبرعات من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48 لرعاية المحتاجين، وكفالة الأيتام، وتقديم المساعدات الاجتماعية الطبية للعائلات الفلسطينية، علما بأن تلك الجمعية كانت العائل الوحيد لأكثر من 10 آلاف يتيم فلسطيني .

وترادف مع ذلك صدور كتاب في عام 1996م لـ "بنيامين نتنياهو" أسماه: "مكافحة الإرهاب والتطرف" كتب فيه أنه يجب أن تحارب الجماعات الإسلامية ومن ضمنها الجماعات الإسلامية الفلسطينية ، ولم يكتف بذلك بل وسع دائرة التحريض والدس ، فوجه الاتهام للمسلمين المقيمين في العالم الغربي ، وقال: "إن أنشطتهم ليست سوى مراكز للإسلام الحربي، وإن جموعهم تعد جسراً للإرهاب وامتداداً له" .

وفي خاتمة كتابه تحت عنوان: "ما ينبغي عمله": للقضاء على الإرهاب وإبادته –على حد زعمه– ذكر بنوداً عدة منها: تجميد ثروات المنظمات الإسلامية، وإدخال تغييرات على القوانين والتشريعات تمكن القيام بعمليات أكثر شمولية ضد المنظمات المحرضة على العنف – تدخل في دائرتها كل الجمعيات الخيرية - وذلك باعتبار الآتي:اعتبار جمع الأموال وتحويلها إلى منظمات إرهابية خروجاً عن القانون وجريمة يعاقب عليها القانون، ويحذر من صناديق الزكاة في العالم الإسلامي والغربي.

وفي خطوة كانت قد اتخذتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة "مادلين أولبرايت" في عام 1997م حيث أعلنت آنذاك "وقف أي تبرعات للشعب الفلسطيني بحجة أنها أموال تدعم الإرهاب".

وتزامن آنذاك قرار "أولبرايت" مع قرار من الكيان اليهودي مشابه بالإعلان عن "حظر خمس مؤسسات خيرية خارجية"، متسترًا بالحجج ذاتها، رغم أن تلك المؤسسات تعمل أساسا على جمع التبرعات من الجاليات الفلسطينية والعربية في أوروبا بهدف دعم الأسر والفئات المحتاجة في الأراضي المحتلة.

وتزامن مع تلك التصريحات نشر الكيان اليهودي قائمة اللائحة السوداء التي تشمل كل الجمعيات الخيرية في فلسطين – تقريباً- العاملة في مجال الإغاثة ولم تغفل أيًّا منها، وأدرجت معها كذلك بعض لجان الزكاة الصغيرة التابعة للقرى والمجالس القروية.

 

حملات صهيونية ضد المؤسسات الخيرية في فلسطين

واصل الاحتلال اليهودي الهجوم على المؤسسات والجمعيات حتى بعد قيام السلطة الفلسطينية عام 1994م، وذلك عبر القرارات العسكرية بإغلاقها أو مصادرتها أو حرمانها من الرخص واعتبارها خارجة عن القانون، ولم تسلم لجان الزكاة في المجالس القروية من الإغلاق ومصادرة الممتلكات والمداهمة واعتقال أعضائها.

وكان العاملون في المؤسسات والخيرية وما زالوا معرضين في أية لحظة للاعتقال وإغلاق مؤسساتهم المدنية والتطوعية، وما زال بعضهم قابعا في سجون الاحتلال لأكثر من سنتين بتهمة العمل في مؤسسة خيرية، على الرغم من أنهم لا يتبعون التنظيمات المسلحة، وليس لهم انتماءات حزبية وحركية، بل طالت الاعتقالات أعضاء لجان زكاة تتبع المجالس القروية.

ووصل الأمر لإغلاق المؤسسات الصحية والإعلامية منها، وتجاهل كافة الانتقادات المحلية والدولية، على الرغم أن قادة اليهود قبل غيرهم يعلمون أن تلك المؤسسات لا تتبع حركة «حماس»، وأعضاؤها ممن يخدمون في مؤسساتهم الخيرية كافة فئات المجتمع الفلسطيني  وليس لهم انتماءات تنظيمية!!

وتعدت الاعتداءات على المؤسسات الخيرية لتصل إلى  مداهمة منشآت تجارية في المدن ومنها مصانع للحديد وأخرى للبلاستيك!! كما حدث في مدينة نابلس؛ بدعوى أنها تابعة لمؤسسات خيرية إسلامية، واعتبرت الحركات السياسية في الضفة الغربية أن حملة الاستهداف الصهيونية للجمعيات والمؤسسات هي طور جديد في الحرب الشاملة التي تشن على الشعب الفلسطيني لكسر إرادته وفرض الإملاءات السياسية التصفوية لقضيته العادلة ونضاله المشروع، وأن إغلاق هذه المؤسسات الخيرية في الضفة استمرار لحلقات الإجرام اليهودي الممنهج ضد المؤسسات الإسلامية والجمعيات الخيرية التي ترعى الأسر الفقيرة والأطفال الأيتام، وانتهاك حرمات المساجد ودور تحفيظ القرآن الكريم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك