رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 18 مارس، 2024 0 تعليق

الصوم من الشعائر العظام

  • لا ثمرة بغير غرس ولا نتيجة بغير مقدمات فلن نكون من المتقين الشاكرين الراشدين إلا بتنفيذ أوامر الله التي منها الأمر بالصيام
  • الصوم من الشعائر العظام بل هو أعظمها إخلاصًا فهو في الحقيقة سر بين العبد وربه لأنه عمل باطن ونية خفية لا يعلمها إلا الله
  • جعل الله سبحانه آية الدعاء بين آيات الصيام لكي يشير لنا بذلك إلى أن الدعاء يكون مرجو القبول مع الصوم
 

الصوم ركن من أركان الإسلام وشعيرة من شعائره العظام، وإنه لأعظم الشعائر دلالة على الإيمان؛ لأنه أعظمها إخلاصًا، فهو في الحقيقة سر بين العبد وربه؛ لأنه عمل باطن، ونية خفية لا يعلمها إلا الله، فإذا تحصل للعبد ذلك المعنى في نفسه، حصل له ذلك التعظيم لتلك الشعيرة فيما بينه وبين ربه، فيكون ذلك من أقوى أدلة حصول الإيمان، وتحقق التقوى، قال -تعالى-: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (سورة الحج، آية: 32).

خطة القرآن في فرض الصيام

        لقد كان من مقتضيات التربية الإيمانية أن تنزل آيات الصيام في القرآن؛ فتحفز تعظيم هذه الشعيرة في القلوب؛ فلم تنزل آيات الصيام لتأمر به فحسب، ولكن لتساعد المسلمين أيضًا على تقوية الوازع الإيماني لديهم، فتعظم أمر الصيام في نفوسهم؛ لأنهم كانوا في السابق لا يصومون إلا يومًا واحداً في العام، وهو يوم عاشوراء، فإذا بالقرآن ينزل فيفرض عليهم صيام شهر بأكمله، يمتنعون فيه عن الطعام والشراب والملذات والشهوات، فكيف أحدث القرآن فيهم ذلك التغيير، فعَظَّم من شأن الصوم عندهم إلى الحد الذي لا يؤثر معه أن أحداً منهم تخلف عن تنفيذ الأمر، وهم قريبو عهد بجاهلية، وانفلات؟

بين تحريم الخمر وتشريع الصيام

        بل إننا نجد تشريع الصيام يأخذ منحًى مختلفاً عن مثيله في تشريع الخمر مثلاً، فبينما هو يأخذهم في شأن الخمر بالتدرج من التخفيف إلى الشدة، نجده في شأن الصيام يأخذهم من الشدة إلى التخفيف، وهم لا سابق عهد لهم بالصوم على هذا النحو الطويل في مدته، الصارم في كيفيته، لقد بدأ فقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)، فبدأ -سبحانه- بتسليتهم ليُهَوِّن الصوم عليهم، فبين لهم أنه ما من أمة من الأمم إلا فرض عليها أصل الصيام، قال لهم ذلك حتى يسهل عليهم الأمر؛ فإن الصعب إذا عم هان، وإن هذا استهلال حكيم بالغ الحكمة من المشرع -سبحانه وتعالى-، ولا سيما وأنه قد أتبع ذلك بذكر الغاية التي من أجلها فرض الصوم، فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، أي يرجى لكم عند التزامكم بالصوم أن تتحقق التقوى في قلوبكم، وفي سلوككم.

التقوى أول الأسباب

         التقوى مطلب رئيس لتحقيق كمال الإيمان؛ فمن دون التقوى لا تكون هداية، والهداية لها ساقان يسير بهما المسلم إلى الله: ساق الإيمان، وساق التقوى، وكلاهما يكمل بعضه بعضاً، فلا تقوى بلا إيمان، ولا إيمان بلا تقوى، ولكي تتحقق التقوى، لابد من فرض الصيام؛ لأنه عبادة تقوم على ضبط النفس، والتحكم في الأهواء والشهوات، ومن دون التدرب على ذلك واعتياده، لن يكون هناك اتباع كامل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما لن يكون هناك التزام بغير ذلك من أحكام الإسلام.

شحذ الهمة لدوام الطاعة

       لقد فرض الصوم إذاً لشحذ همة المسلم؛ حتى يسهل عليه دوام الالتزام بطاعة الله ورسوله في كل وقت وفي كل حال؛ ولذلك فإنه -سبحانه- لم يفرض الصيام في أول الأمر من الفجر إلى المغرب، إنما أخذوا فيه بالشدة من جانب زمنه، مع اللين في جانب فعله، فكان الصوم إلى المغرب لكن إذا نام أحدهم فقد بدأ صومه ولو كان قبل الفجر بساعات، ولو كان لم يطعم شيئاً ثم نام، فإنه كان لا يحل له أن يتناول مفطراً إذا قام من الليل، وحين خيَّرَهُم بين الصوم والفداء فإنه قال لهم {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}، لكنه ختم الآية فقال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:184)، فهو فعلا خيرهم، لكنه في الوقت ذاته أخذهم إلى اختيار الصوم، حين بين لهم أن من سيصوم فإنه سيحوز فضيلتين: فضيلة الخيرية وفضيلة العلم، فيكون هو الأعلم وهو الأكثر خيرا؛ لذلك لم يُعرف عن أحد من الصحابة أنه أخرج الفداء بغير عذر من مرض أو عجز في تلك المرحلة من تشريع الصيام. فلما حصل منهم ذلك الالتزام، علت همتهم، وسمت نفوسهم، ففرض عليهم الصيام فرضاً من غير تخيير فقال -سبحانه-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185).

شهر الشكر على القرآن

        لقد بين الله -عز وجل- في هذه الآية الكريمة السابقة السبب الثاني الذي من أجله فرض الصيام، وهو تبجيل ذلك الشهر الذي أنزل فيه القرآن وتعظيمه، وختم الآية فقال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} يعني مع نهاية الشهر، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185)، أي إنكم حين تلتزمون بالصيام فسوف تكونون بذلك من الشاكرين لله، على نعمه، وعلى الخصوص منها نعمة القرآن التي بها انتقلتم من الضلال إلى الهدى، ومن الغواية إلى الرشاد، فمن دون الصوم لا نكون من المتقين، ولا نكون من الشاكرين.

الصوم أحد مفاتيح السماء

         لقد جعل الله -سبحانه- آية الدعاء بين آيات الصيام، لكي يشير لنا بذلك إلى أن الدعاء يكون مرجو القبول مع الصوم، فلعل ذلك أيضاً سبب ثالث من أسباب فرض الصوم، كونه مما تفتح به أبواب السماء، وقد جاء في الأثر: «إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةً لا تُرَدُّ»، فلعل تلك الدعوة المستجابة جائزة معجلة من جوائز الصوم، كما هي أيضاً من أسباب تشريعه، وحافز من أهم الحوافز المشجعة على قبوله، فضلا عن الرضا به، ثم الشوق إليه ومحبته: وفي الحديث الشريف: «ثلاثُ دَعَواتٍ مُسْتَجاباتٌ: دَعْوَةُ الصَّائِمِ وَدَعْوَةُ المُظْلُومِ ودَعْوَةُ المُسافِر» (صحيح الجامع الصغير وزيادته).

النصر على الأعداء

        إن الله -تعالى- فرض الصيام على المسلمين في السنة الثانية للهجرة، في مرحلة مفصلية من تاريخ دعوة الإسلام، وهو التوقيت الذي فُرضت فيه الزكاة، وفُرض فيه أيضاً الجهاد، فكانت في ذلك إشارة واضحة إلى أن المسلم لن يستطيع أن يهزم أعداءه الخارجيين إلا إذا قوي على هزيمة أعدائه الداخليين، أي نفسه وهواه، فلابد من ضبط النفس على أعمال التقوى، والتزام أوامر الله ورسوله، مهما كانت في ظاهرها شاقة، فإذا تحققت تلك العبودية وذلك الالتزام، فإن النتيجة هي أن نكون من الشاكرين، فيستجيب دعاءنا، ونكون من الراشدين.

الرشد أعظم غايات الصيام

        إن الراشدين هم الذين يسيرون في حياتهم بإرشاد خالقهم، لا بهوى أنفسهم؛ لذلك بين الله -تعالى- لنا مع تلك الآيات آيات الصيام، أنه لا ثمرة بغير غرس، ولا نتيجة بغير مقدمات، فلن نكون من المتقين، الشاكرين، مستجابي الدعوة، الراشدين، إلا بتنفيذ أوامر الله، التي منها الأمر بالصيام، قال -تعالى-: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186)، فبتحقيق تلك الاستجابة، وذلك الإيمان، يحصل التغيير في حياة المسلم، فيكون من الراشدين، عقيدة وسلوكا، وديناً ودنيا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك