رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د/ وليد بن محمد بن عبدالله العلي 3 أغسطس، 2010 0 تعليق

الروض الأنيق في الفوائد المستنبطة من قصة يوسف الصديق (2)

 

 

الفائدة العاشرة:

الفائدة المستنبطة من قوله تعالى: {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} (يوسف: 23).

- البلاء بمخالفة دواعي النفس والطبع: من أشد البلاء، فإنه لا يصبر عليه إلا الصديقون، وأما البلاء الذي يجري على العبد بغير اختياره؛ كالمرض والجوع والعطش ونحوها: فالصبر عليه لا يتوقف على الإيمان، بل يصبر عليه البر والفاجر، لاسيما إذا علم أنه لا معول له إلا الصبر؛ فإنه لم يصبر اختيارا، بل صبر اضطرارا.

ولهذا كان بين ابتلاء يوسف الصديق بما فعل به إخوته من الأذى والإلقاء في الجب، وبيعه بيع العبيد، والتفريق بينه وبين أبيه، وابتلائه بمراودة المرأة, وهو شاب عزب غريب بمنزلة العبد لها وهي الداعية إلى ذلك: فرق عظيم لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاء.

فإن الشباب داع إلى الشهوة، والشاب قد يستحيي من أهله ومعارفه من قضاء وطره، فإذا صار في دار الغربة: زال ذلك الاستحياء والاحتشام، وإذا كان عزبا: كان أشد لشهوته، وإذا كانت المرأة هي الطالبة: كان أشد، وإذا كانت جميلة: كان أعظم، فإذا كانت ذات منصب: كان أقوى في الشهوة، فإن كان ذلك في دارها وتحت حكمها بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة، كان أبلغ، فإن استوثقت بتغليق الأبواب والاحتفاظ من الداخل: كان أقوى أيضا للطلب، فإن كان الرجل كمملوكها وهي كالحاكمة عليه الآمرة الناهية: كان أبلغ في الداعي، فإذا كانت المرأة شديدة العشق والمحبة للرجل؛ قد امتلأ قلبها من حبه: فهذا الابتلاء الذي صبر معه مثل الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، صلوات الله عليهم أجمعين.

ولا ريب أن هذا الابتلاء: أعظم من الابتلاء الأول، بل هو من جنس ابتلاء الخليل بذبح ولده؛ إذ كلاهما ابتلاء بمخالفة الطبع ودواعي النفس والشهوة ومفارقة حكم طبعه، وهذا بخلاف البلوى التي أصابت ذا النون، والتي أصابت أيوب (طريق الهجرتين ص412-413).

- أتته بالرغبة والرهبة، ومع هذا كله: عفَّ لله ولم يطعها، وقدم حق الله وحق سيدها على ذلك كله، وهذا أمر لو ابتلي به سواه: لم يُعلم كيف كانت تكون حاله (روضة المحبين ص326).

- الصبر: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش.

وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله.

فالأولان: صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها: أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه؛ فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية: فصبر اختيار ورضا ومحاربة للنفس، ولاسيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة (مدارج السالكين 2/162-163).

- قال وهب بن منبه: «قالت امرأة العزيز ليوسف عليه السلام: ادخل معي القيطون - تعني الستر - قال: إن القيطون لا يسترني من ربي» (روضة المحبين ص399).

- قال حصين بن عبدالرحمن: بلغني أن فتى من أهل المدينة كان يشهد الصلوات كلها مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عمر يتفقده إذا غاب، فعشقته امرأة من أهل المدينة، فذكرت ذلك لبعض نسائها، فقالت: أنا أحتال لك في إدخاله عليك، فقعدت له في الطريق، فلما مر بها قالت له: إني امرأة كبيرة السن؛ ولي شاة لا أستطيع أن أحلبها، فلو دخلت فحلبتها لي - وكانوا أرغب شيء في الخير - فدخل فلم ير شاة، فقالت: اجلس حتى آتيك بها، فإذا المرأة قد طلعت عليه، فلما رأى ذلك: عمد إلى محراب في البيت فقعد فيه، فأرادته عن نفسه فأبى، وقال: اتقي الله أيتها المرأة، فجعلت لا تكف عنه ولا تلتفت إلى قوله، فلما أبى عليها: صاحت عليه، فجاؤوا فقالت: إن هذا يريدني عن نفسي، فوثبوا عليه وجعلوا يضربونه، وأوثقوه، فلما صلى عمر الغداة فقده، فبينما هو كذلك إذ جاؤوا به في وثاق، فلما رآه عمر قال: اللهم لا تخلف ظني به. قال: ما لكم؟ قالوا: استغاثت امرأة بالليل، فجئنا فوجدنا هذا الغلام عندها فضربناه وأوثقناه، فقال عمر ]: اصدقني. فأخبره بالقصة على وجهها، فقال له عمر ]: أتعرف العجوز؟ فقال: نعم؛ إن رأيتها عرفتها. فأرسل عمر إلى نساء جيرانها وعجائزهن، فجاء بهن فعرضهن، فلم يعرفها فيهن، حتى مرت به العجوز فقال: هذه يا أمير المؤمنين، فرفع عمر عليها الدرة، وقال: اصدقيني. فقصت عليه القصة كما قصها الفتى، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل فينا شبيه يوسف (روضة المحبين ص460).

 

الفائدة الحادية عشرة

الفائدة المستنبطة من قول الله تعالى: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} (يوسف: 24).

- إن قيل: فقد همَّ بها.

قيل عنه جوابان: أحدهما: أنه لم يهمَّ بها، بل لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ. هذا قول بعضهم في تقدير الآية.

والثاني وهو الصواب: أن همَّه كان همَّ خطرات، فتركه لله، فأثابه الله عليه، وهمُّها كان همَّ إصرار، بذلت معه جهدها فلم تصل إليه؛ فلم يستو الهمَّان.

قال الإمام أحمد رحمه الله: «الهمُّ همَّان، همُّ خطرات، وهمُّ إصرار».

فهمُّ الخطرات لا يُؤاخذ به، وهمُّ الإصرار يُؤاخذ به (روضة المحبين ص326).

- ما يُدَّعى من التقديم في قوله: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه}، وأن هذا قد تقدم فيه جواب "لولا" عليها: فهذا أولا لا يُجيزه النحاة، ولا دليل على دعواه، ولا يقدح في العلم بالمراد (الصواعق المرسلة 2/716).

- إن القلب لابد له من التعلق بمحبوب؛ فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده: فلا بد أن يتعبد قلبه لغيره؛ قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}.

فامرأة العزيز لما كانت مشركة: وقعت فيما وقعت فيه؛ مع كونها ذات زوج، ويوسف عليه السلام لما كان مخلصا لله تعالى نجا من ذلك مع كونه شابا عزبا غريبا مملوكا (إغاثة اللهفان 1/78-79).

- الإقبال على الله والإخلاص له، وجعل محبته وترضّيه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها، تدب فيها دبيب الخواطر شيئا فشيئا حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية، فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب والتقرب إليه وتملقه وترضيه واستعطافه وذكره، كما يذكر المحب التام المحبة لمحبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه؛ فلا يجعل بيت أفكاره وقلبه معمورا بالفكر في حاسده والباغي عليه والطريق إلى الانتقام منه والتدبير عليه، هذا ما لا يتسع له إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله وطلب مرضاته.

بل إذا مسه طيف من ذلك واجتاز ببابه من خارج، ناداه حرس قلبه: إياك وحمى الملك، اذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حل فيها ونزل بها، ما لك ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليزك؛ وأدار عليه الحرس؛ وأحاطه بالسور؟

قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس أنه قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك المخلصين}، قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}، وقال: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون}؛ وقال في حق الصديق: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}.

فما أعظم سعادة مَن دخل هذا الحصن وصار داخل اليزك، لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصن به، ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه، و(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} (بدائع الفوائد 2/205-206).

- المخلص لله: إخلاصه يمنع غل قلبه، ويخرجه ويزيله جملة؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه؛ فلم يبق فيه موضع للغل والغش، كما قال تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}.

فلما أخلص لربه: صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، فانصرف عنه السوء والفحشاء؛ ولهذا لما علم إبليس أنه لا سبيل له على أهل الإخلاص: استثناهم من شَرْطَته التي اشترطها للغواية والإهلاك، فقال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين}، قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}.

فالإخلاص: هو سبيل الخلاص، والإسلام: هو مركب السلامة، والإيمان: خاتم الأمان (مفتاح دار السعادة 1/277).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك