رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د/ وليد بن محمد بن عبدالله العلي 4 أغسطس، 2010 0 تعليق

الروض الأنيق في الفوائد المستنبطة من قصة يوسف الصديق (3)

  

«الجزء الخامس»

الفائدة الثانية عشرة

الفائدة المستنبطة من قول الله تعالى: {قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} (يوسف: 26-28).

- إن الخبر شهادة، وكل مخبر شاهد، قال تعالى: {وشهد شاهد من أهلها} ثم ذكر شهادته فقال: {إن كان قميصه قدّ من قبل} (بدائع الفوائد: 4/44).

{شاهد من أهلها} قد قال قوم: حكيم من أهلها، وقال قوم: القميص الشاهد، وقال قوم: الصبر (بدائع الفوائد 3/100).

- العالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه (أعلام الموقعين: 1/88).

- من له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالها وعدلها وسعتها ومصلحتها، وأن الخلق لا صلاح لهم بدونها ألبتة: علم أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط علما بمقاصدها ووضعها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة.

فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة، والشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، وهي من الشريعة، علمها من علمها، وخفيت على مَن خفيت عنه، ولا تنس في هذا الموضع: قول سليمان نبي الله للمرأتين اللتين ادعتها الولد، فحكم به داود للكبرى، فقال سليمان: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل، هو ابنها، فقضى للصغرى؛ لما دل عليه امتناعها من رحمة الأم، ودل رضا الكبرى بذلك على الاسترواح إلى التأسي بمساواتها في فقد الولد.

وكذلك قول الشاهد من أهل امرأة العزيز: {إن كان قميصه قد من قبل}، {وإن كان قميصه قد من دبر} (بدائع الفوائد: 3/105).

- توصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب، وهذا لَوْث في أحد المتنازعين يبين به أولاهما بالحق.

وقد ذكر الله سبحانه اللوث في دعوى المال في قصة شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر، وأمر بالحكم بموجبه، وحكم النبي [ بموجب اللوث في القسامة، وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا دم القتيل، فهذا لوث في الدماء، والذي في سورة المائدة لوث في الأموال، والذي في سورة يوسف لوث في الدعوى في العرض ونحوه (الطرق الحكمية ص5).

- ما حكاه الله سبحانه في قصة يوسف من استدلال الشاهد بقرينة قد القميص من دبر على صدقه وكذب المرأة، وأنه كان هاربا موليا فأدركته المرأة من ورائه فجذبته فقدت قميصه من دبر، فعلم بعلها والحاضرون صدقه، وقبلوا هذا الحكم، وجعلوا الذنب ذنبها، وأمروها بالتوبة، وحكاه الله سبحانه وتعالى حكاية مقرر له، غير منكر.

والتأسي بذلك وأمثاله: في إقرار الله وعدم إنكاره، لا في مجرد حكايته؛ فإنه إذا أخبر به مقرا عليه ومثنيا على فاعله ومادحا له: دل على رضاه به، وأنه موافق لحكمه ومرضاته.

فليتدبر هذا الموضع فإنه نافع جدا، ولو تتبعنا ما في القرآن والسنة وعمل رسول الله [ وأصحابه من ذلك: لطال، وعسى أن نفرد فيه مصنفا شافيا إن شاء الله تعالى (زاد المعاد: 3/149-150).

- جملة الشرط والجزاء تارة تكون تعليقا محضا غير متضمن جوابا لسائل: هل كان كذا؟ ولا يتضمن نفي قول من قال: قد كان كذا، فهذا يقتضي الاستقبال.

وتارة يكون مقصوده ومضمَّنه جواب سائل: هل وقع كذا؟ أو رد قوله: قد وقع كذا، فإذا علق الجواب هنا على شرط: لم يلزم أن يكون مستقبلا لا لفظا ولا معنى، بل لا يصح فيه الاستقبال بحال؛ كمن يقول لرجل: هل أعتقت عبدك؟ فيقول: إن كنت قد أعتقته فقد أعتقه الله. فما للاستقبال هنا معنى قط.

وكذلك إذا قلته لمن قال: صحبت فلانا؟ فيقول: إن كنت صحبته فقد أصبت بصحبته خيرا، وكذلك إذا قلت له: هل أذنبت؟ فيقول: إن كنت قد أذنبت فإني قد تبت إلى الله واستغفرته.

وكذلك إذا قال: هل قلت لفلان كذا؟ وهو يعلم أنه علم بقوله له، فيقول: إن قلته فقد علمته.

فقد عرفت أن هذه المواضع كلها مواضع ماض لفظا ومعنى؛ ليطابق السؤال الجواب، ويصح التعليق الخبري لا الوعدي، فالتعليق الوعدي يستلزم الاستقبال، وأما التعليق الخبري فلا يستلزمه.

ومن هذا الباب: قوله تعالى: {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين}.

وتقول: إن كانت البينة شهدت بكذا وكذا فقد صدقت.

وهذه دقيقة خلت منها كتب النحاة والفضلاء، وهي كما ترى وضوحا وبرهانا، ولله الحمد (بدائع الفوائد: 1/43).

- أما الماضي: فيصرف إلى الاستقبال بعد أدوات الشرط وفي الوعد والإنشاء ونحوه، لا في الخبر كقوله تعالى: {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت}، {وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت} (بدائع الفوائد: 4/158).

- كل عاجز جبان: سلطانه في مكره وخداعه وبهته وكذبه؛ ولذلك كان النساء بيت المكر والخداع والكذب والخيانة، كما قال الله تعالى عن شاهد يوسف عليه السلام أنه قال: {إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} (إغاثة اللهفان: 2/460/461).

«الجزء السادس»

الفائدة الثالثة عشرة

الفائدة المستنبطة من قول الله تعالى: {يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} (يوسف: 29).

- يدلك على أن حرف النداء ليس بعامل: وجود العمل في الاسم دونه، نحو: صاحب زيد أقبل، {يوسف أعرض عن هذا} (بدائع الفوائد: 1/30).

- إسقاط حرف النداء، كقوله تعالى: {يوسف أعرض عن هذا} (تهذيب سنن أبي داود: 6/262).

الفائدة الرابعة عشرة

- يقال: شغف بكذا؛ فهو مشغوف به، وقد شغفه المحبوب؛ أي: وصل حبه إلى شغاف قلبه.

كما قال النسوة عن امرأة العزيز: {قد شغفها حبا}، وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه الحب المستولي على القلب، بحيث يحجبه عن غيره. قال الكلبي: «حجب حبُّه قلبها حتى لا تعقل سواه».

الثاني: أنه الحب الواصل إلى غشاء القلب، والشغاف: غشاء القلب، إذا وصل الحب إليه باشر القلب، قال السدي: «الشغاف: جلدة رقيقة على القلب، يقول: دخله الحب حتى أصاب القلب».

وقرأ بعض السلف: «شعفها» بالعين المهملة.

ومعناه: ذهب الحب بها كل مذهب، وبلغ بها أعلى مراتبه، ومنه: شعف الجبال، لرؤوسها (مدارج السالكين: 3/29-30).

الفائدة الخامسة عشرة

- انظر إلى النسوة كيف {قطعن أيديهن} لما طلع عليهن يوسف عليه السلام وشاهدن ذلك الجمال، ولم يتقدم لهن من عشقه ومحبته ما تقدم لامرأة العزيز، فأفناهن شهود جماله عن حالهن حتى قطعن أيديهن، أما امرأة العزيز فإنها وإن كانت صاحبة المحبة فإنها كانت قد ألفت رؤيته ومشاهدته، فلما خرج لم يتغير عليها حالها كما تغير على العواذل، فكان مقامها البقاء، ومقامهن الفناء، وحصل لهن الفناء من وجهين:

أحدهما: ذهولهن عن الشعور بقطع ما في أيديهن، حتى تخطاه القطع إلى الأيدي.

الثاني: فناؤهن عن الإحساس بألم القطع، وهكذا الفناء بالمخوف والفرح بالمحبوب، يفنى صاحبه عن شعوره وعن إحساسه بالكيفيات النفسانية.

هذا في مشاهدة مخلوق محدث له أشباه وأمثال، وله من يقاربه ويدانيه في الجمال، وإنما فاق بني جنسه في الحسن والجمال ببعض الصفات، وامتاز ببعض المعاني المخلوقة المصنوعة، فما الظن بمن له الجمال كله والكمال كله والإحسان والإجمال، ونسبة كل جمال في الوجود إلى جماله وجلاله أقل من نسبة سراج ضعيف إلى عين الشمس؟!

ولما علم سبحانه أن قوى البشر لا تحتمل في هذه الدار رؤيته: احتجب عن عباده إلى يوم القيامة، فينشئهم نشأة يتمكنون بها من مشاهدة جمال ورؤية وجهه، وأنت ترى بعض آياته ومخلوقاته ومبدعاته كيف يفنى فيها مشاهدها عن غيرها، ولكن هذا كله في المشاهدات العيانية والواردات الوجدانية (مدارج السالكين: 3/390-391).

- إذا كانت مشاهدة مخلوق يوم {اخرج عليهن} استغرقت الناظرات، {وقطعن أيديهن} وما شعرن، فكيف بالحال يوم المزيد؟! (بدائع الفوائد: 3/199).

- قيل: إن الحامل كانت ترى يوسف عليه الصلاة والسلام فتضع حملها، فكيف ترى هذه وضعته؛ أباختيار كان ذلك أم باضطرار؟!

قال غيره: وهؤلاء النسوة {قطعن أيديهن} لما بدا لهن حسن يوسف عليه السلام، وما تمكن حبه من قلوبهن، فكيف لو شغفهن حبا؟! (روضة المحبين: ص161).

- إن مشاهدته في تلك الحال: غيّبت عن النسوة السكاكين وما يقطعن بها، حتى {قطعن أيديهن} ولا يشعرن، وذلك من قوة الغيبة (مدارج السالكين: 3/220).

- ما حصل لهن من إعظامه وإجلاله: فذلك منزلة التعظيم (مدارج السالكين: 3/78).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك