رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د/ وليد بن محمد بن عبدالله العلي 7 أغسطس، 2010 0 تعليق

الروض الأنيق في الفوائد المستنبطة من قصة يوسف الصديق (5)

 

 

الفائدة الرابعة والعشرون:

فإن قيل: فما كان مكر النسوة اللاتي مكرن به وسمعته امرأة العزيز، فإن الله سبحانه لم يقصه في كتابه؟

قيل: بلى؛ قد أشار إليه بقوله: {وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين} (يوسف: 30).

وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر:

أحدها: قولهن: {امرأة العزيز تراود فتاها} (يوسف: 30)، ولم يسمينها باسمها، بل ذكرنها بالوصف الذي ينادي عليها بقبيح فعلها بكونها ذات بعل؛ فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممن لا زوج لها.

الثاني: أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها، وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها.

الثالث: أن الذي تراوده مملوك لا حر، وذلك أبلغ في القبح.

الرابع: أنه فتاها الذي هو في بيتها وتحت كنفها؛ فحكمه حكم أهل البيت، بخلاف طلب ذلك من الأجنبي البعيد.

الخامس: أنها هي المراودة الطالبة.

السادس: أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ، حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها.

السابع: أن في ضمن هذا أنه أعف منها وأبر وأوفى؛ حيث كانت هي المراودة الطالبة، وهو الممتنع عفافا وكرما وحياء، وهذا غاية الذم لها.

الثامن: أنهن أتين بفعل المراودة بصيغة المستقبل الدالة على الاستمرار، والوقوع حالا واستقبالا، وأن هذا شأنها، ولم يقلن: راودت فتاها، وفرق بين قولك: فلان أضاف ضيفا، وفلان يقري الضيف ويطعم الطعام ويحمل الكل؛ فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته.

التاسع: قولهن: {إنا لنراها في ضلال مبين} (يوسف: 30) أي: إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح، فنسبن الاستقباح إليهن، ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى ولا يكدن يرين ذلك قبيحا، كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك، فحيث استقبحن منها ذلك: كان هذا التسليم بأنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه، ولا يحسن معاونتها عليه.

العاشر: أنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط والطلب المفرط، فلم تقتصد في حبها ولا في طلبها، أما العشق فقولهن: {قد شغفها حبا} (يوسف: 30)، أي: وصل حبه إلى شغاف قلبها، وأما الطلب المفرط فقولهن: {تراود فتاها} (يوسف: 30)، والمراودة: الطلب مرة بعد مرة، فنسبوها إلى شدة العشق وشدة الحرص على الفاحشة.

فلما سمعت بهذا المكر منهن: هيأت لهن مكرا أبلغ منه، فهيأت {لهن متكأ} (يوسف: 31)، ثم أرسلت إليهن فجمعتهن، وخبأت يوسف عليه السلام عنهن.

وقيل: إنها جملته وألبسته أحسن ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة، فلم يرعهن إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة؛ فراعهن ذلك المنظر البهي، وفي أيديهن مُدىً يقطعن بها ما يأكلنه، فدهشن حتى {قطعن أيديهن} (يوسف: 50) وهن لا يشعرن.

وقد قيل: إنهن أبَنَّ أيديهن.

والظاهر خلاف ذلك، وإنما تقطيعهن أيديهن: جرحها وشقها بالمدى؛ لدهشهن بما رأين، فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي، وكانت هذه في النساء غاية في المكر (إغاثة اللهفان: 2/154-157).

 

«الجزء العاشر»

الفائدة الخامسة والعشرون:

أخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف، وما راودته وكادت به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبّره الله عليه؛ فإن موافقة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي هاهنا في غاية القوة، وذلك لوجوه:

أحدها: ما ركَّب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة، كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيرا من الناس يصبر عن الطعام والشراب، ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حِلّاً، بل يحمد، كما في كتاب الزهد للإمام أحمد من حديث يوسف بن عطية الصفار عن ثابت البناني عن أنس عن النبي[ أنه قال: «حُبِّب إلي من دنياكم الطيب والنساء، أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن».

الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شابا، وشهوة الشباب وحدَّته أقوى.

الثالث: أنه كان عزبا لا زوجة له ولا سرية تكسر شدة الشهوة.

الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى لغيره في وطنه وأهله ومعارفه.

الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال، بحيث أن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى موافقتها.

السادس: أنها غير آبية ولا ممتنعة؛ فإن كثيرا من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع زيادة حب، كما قال الشاعر:

وزادني كلفا في الحب أن منعَتْ

أحب شيء إلى الإنسان ما مُنِعا

فطباع الناس مختلفة، فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها، ويضمحل عند إبائها وامتناعها.

وأخبرني بعض القضاة: أن إرادته وشهوته تضمحل عند امتناع زوجته أو سريته وإبائها؛ بحيث لا يعاودها.

ومنهم من يتضاعف حُبُّهُ وإرادته بالمنع، ويشتد شوقه بكل ما منع، وتحصل له من اللذة بالظفر نظير ما يحصل له من اللذة بالظفر بالضد بعد امتناعه ونفاره، واللذة بإدراك المسألة بعد استصعابها، وشدة الحرص على إدراكها.

السابع: أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد، فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.

الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها، بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعيا الرغبة والرهبة.

التاسع: أنه لا يخشى أن تنم عليه هي ولا أحد من جهتها؛ فإنها هي الطالبة الراغبة، وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء.

العاشر: أنه كان مملوكا لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها، ولا ينكر عليه، وكان الأنس سابقا على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب: ما حملك على الزنى؟ قالت: قرب الوساد، وطول السِّواد، تعني: قرب وساد الرجل من وسادتي، وطول السِّواد بيننا.

الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن، وشكت حالها إليهن؛ لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال: {وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} (يوسف: 33).

الثاني عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه؛ إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.

الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلا منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: {أعرض عن هذا} (يوسف: 29)، وللمرأة {استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} (يوسف: 29) وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع، وهنا لم يظهر منه غيرة.

ومع هذه الدواعي كلها: آثر مرضاة الله وخوفه وحلمه وحبه لله على أن اختار السجن على الزنى، فقال: {رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} (يوسف: 33) وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن: صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه.

وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم: ما يزيد على ألف فائدة، لعلنا إن وفقنا الله أن نفردها في مصنف مستقل (الداء والدواء ص319-322).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك