رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 4 يونيو، 2024 0 تعليق

الحوكمة في المؤسسات الوقفية والخيرية (2) مفهوم حوكمة المؤسسة الوقفية

 

  • نظام الوقف في الإسلام يعطي نظرةً شموليّةً تتيح تطوير ما هو موجود من إجراءات وفعاليات ومؤسسات تنظيمية لتمارس دورها المطلوب
  • الغاية من حوكمة المؤسّسة الوقفية هي إصلاح ما في المؤسّسة من خلل والنّهوض بها إلى الأفضل
  • مبادئ الحوكمة قائمة في القرآن الكريم والسّنّة المطهّرة على سبيل التشريع العام وليس الخاص بالوقف فقط
 

ما زال حدثينا مستمرا حول الحوكمة في المؤسسات الوقفية والخيرية، وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن الحاجة للحوكمة، ومعناها ومفهومها الإداري والمحاسبي وآثارها ومنافعها، واليوم نتكلم عن مفهوم الحوكمة في المؤسسات الوقفية.

         حوكمة المؤسسة الوقفية، مدارها على: تطبيق نظام رقابيّ شامل لأساليب العمل ووسائله في المؤسسة الوقفية، فهو منهجية إدارية وعلمية ذات معايير متفق عليها داخليًّا، ومراقبة خارجيًّا، يُحكم -من خلالها- على الأداء وتقويمه في كل المجالات.

مجموعة من القواعد والمبادئ والإجراءات

          وعليه يمكن التعريف بمفهوم حوكمة مؤسسة الوقف بأنه: مجموعة من القواعد والمبادئ والإجراءات التي تحكم العلاقات بين الأطراف المؤثرة في أداء مؤسسة الوقف، ويمكن من خلالها متابعة أداء مجلس النظارة والإدارة التنفيذية ومراقبتهم، وكفاءة استخدامها الاستخدام الأمثل لمواردها؛ بما يحقق شروط الواقفين، ومنفعة جميع الأطراف ذوي المصلحة، ويسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، في إطار من الشفافية والعدالة والمساءلة والمسؤولية.

الغاية من حوكمة المؤسّسة الوقفية

          وباختصار يمكننا تعريف (حوكمة المؤسسة الوقفية) بالآتي: «القواعد والضوابط المعمول بها التي توجه سلوك المؤسسة الوقفية، والإجراءات التي تُلزم إدارات العمل في المؤسسة تطبيق تلك القواعد وتعزيزها؛ لتوفير بيئة لتحسين الأداء وتطوير الأعمال لتتحقق مقاصد الوقف»؛ فالغاية من حوكمة المؤسّسة الوقفية هي إصلاح ما في المؤسّسة من خلل والنّهوض بها إلى الأفضل؛ لذا تُعدُّ الشفافية والإفصاح من أهم دعائم نظام الحوكمة؛ فهي تمنع -إلى حدٍّ كبير- الفساد في المؤسسات الخيرية والوقفية، وتضمن الحفاظ على الأصول الماليّة، وتضمن ترشيد الإنفاق والصّرْف، واستقامة التصرُّف وقَصْره على الوجوه الصحيحة في حقّ جميع الأطراف ذوي العلاقة.

أُسُس الحوكمة الإداريّة ومبادئها

          «يتوّج مفهوم الوقف في الإسلام عددٌ من أُسُس الحوكمة الإداريّة ومبادئها التي ظهرت بعد ذلك بمئات السّنين! ويجعل منها نقلةً نوعيّةً في مفهوم التحكُّم والسّيطرة على الأوقاف في سياق الرّقابة والإشراف والقيادة الفرديّة إلى نظام كلّي متطوّر يصطبغ بحكم مؤسّسي قائم على أُسس راسخة، ويشبه إلى حدّ بعيد مفهوم حكم المؤسّسات في الأنظمة السياسيّة الحديثة.

نظرة شموليّة

         ونظام الوقف في الإسلام لا يطرح رؤى وأفكاراً مثاليّة أو خياليّة، وقد لا يتطلّب تأسيساً جديداً لنُظُم وإجراءات وفعاليات، ولكنه يعطي نظرةً شموليّةً تتيح تطوير ما هو موجود من إجراءات وفعاليات ومؤسسات تنظيمية، لتمارس دورها المطلوب، ولتنفذ واجباتها كما يجب». وبالنّظر إلى مقرّرات الفقه الإسلاميّ في باب الوقف، نجد أنّ مبادئ حوكمة المؤسّسة الوقفيّة ليست مفهوماً طارئاً على إدارة الوقف، بل نجد مضاهاةً سابقة من فقهاء الشّريعة للنُّظُم الإداريّة والرقابيّة الحديثة، وسيتضح مصداق التقرير المنقول أعلاه أكثر -إن شاء الله- عند الكلام على دور القواعد والضوابط الفقهية في حماية الأصول الوقفية وحوكمة مؤسسة الوقف.

مبادئ الحوكمة في القرآن والسّنّة

         على أنّه لابدّ من الإشارة إلى أنّ مبادئ الحوكمة عموماً قائمة في القرآن الكريم والسّنّة المطهّرة كذلك، وعلى سبيل التشريع العام وليس الخاص بالوقف فقط، وذلك يمكن أن يُلمَح من جملةٍ من النّصوص الشرعيّة الدّاعيّة إلى التخلُّق بأخلاقيّات خاصّة مناسبة للعمل العام، وتنفيذ المسؤوليّات السياسيّة والاجتماعيّة بنزاهةٍ وشفافيّة وفصل بين السلطات والمسؤوليّات، وضرورة مساءلة المقصّر ومحاسبته.

مفهوم الرُّشد

         من أمثلة ذلك: مفهوم الرُّشد، الذي طرقته عددٌ من الآيات الكريمة، وبيّنت أنّ مراعاته حاضرةٌ في أكثر من مجالٍ من مجالات العمل الاجتماعي، قال -تعالى-: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}. لذلك نجد أنّ مفهوم الرُّشْد هو الأكثر حضوراً في نصوص الواقفين وشروطهم؛ إذ يُسندون النّظارة دوماً أو يُوصون بأن يتسلسل إسنادها إلى الأرشد فالأرشد من ذرّيّاتهم، ومن تجاوز ذرّيّته أسند نظارة الوقف إلى من لا يُوضع في مكانه إلّا بعض اتّصافه بالذّروة العليا من الرُّشد، كالعالِم والقاضي، قال -تعالى-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}.

تحديث المؤسّسات الماليّة الإسلاميّة

         وقد استند كثيرٌ من الدّاعين إلى تحديث إدارة المؤسّسات الماليّة الإسلاميّة على أساس الشّريعة الإسلاميّة، على حديث ابن اللُّتبيّة، الذي تجسّدت فيه مساءلة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأحد عمّاله، وتجلّت في تلك المساءلة مفاهيم الشّفافيّة والإفصاح والنّزاهة، وحُرمة استغلال السّلطة الوظيفيّة في تحصيل المنافع الشخصيّة. فقد أخرج البخاريّ في صحيحه (6979) عن أبي حميد السّاعدي - رضي الله عنه - قال: استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - رجلاً على صدقات بني سُليم، يدعى ابنَ اللُّتْبِيَّةِ، فلما جاء حاسَبَه، قال: هذا ما لكم وهذا هدية؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «فهلّا جلست في بيت أبيك وأمك، حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا»؟ ثمّ خطَبَنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، فإنّي أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولّاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفنّ أحداً منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تَيْعِرُ»، ثم رفع يده حتى رُئِي بياض إبطه، يقول: «اللهم هل بلغت»، بَصَرُ عيني وسمع أذني. وقد جاء في الحديث كذلك قوله -صلى الله عليه وسلم -: «هدايا العمّال غُلول». والغُلولُ حرامٌ، إلّا في حدودٍ ضيّقةٍ تكون قد استقرّت عليها عادةٌ، أن يُهدى إلى العامل من كان معتاداً أن يُهدي إليه قبل تولّيه عمله، لقرابةٍ أو صداقة، وهذا مبسوطٌ في مظانّه، لكن القصد الإشارة إلى قيام مبدأ المحاسبة والمساءلة، وأنّ القِيَم والمبادئ الأساسيّة لحوكمة العمل العام كانت حاضرةً بقوّة، وتمّ التأصيل لها تأصيلاً شرعيًّا واضحاً، ولم تكن من نافلة القول، ولا في الصّفّ الثّاني أو الثالث من مطالب العمل الاجتماعيّ، بل كانت في الصّفّ الأوّل دوماً.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك