رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: خالدة النصيب 1 أغسطس، 2010 0 تعليق

البنيان المرصوص (4)

 

 
كان عليه الصلاة والسلام يعامل الناس بالرفق، وما كان يعنف أحداً، وكان متواضعا بشدة، ولم يكن فاحشا ولا متفحشا، وكان حسن الخلق، وكان يقول[: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه» رواه مسلم. وكان من خلقه[ أنه لا يرد على من آذاه بلسانه لكن الله يرد عنه الأذى، فعن عائشة - رضي الله عنها-: «أن يهود أتوا النبي[ فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم، فقال مهلا يا عائشة! عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش، قالت: أو لم تسمع ما قالوا: قال: أو لم تسمعي ما قلت: رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ» رواه البخاري. فمن آذى النبي[ بلسانه قابله بالرفق وعدم العنف وترك الكلام الفاحش، وقد يكون من المصلحة ترك الرد والسكوت عمن آذاك تألفا له ورغبة في رجوعه عن الباطل، وكأنه يعلمنا[ كيف نرد على من آذاه، ففي زماننا هناك من تكلم على النبي[ وآذاه بلسانه، ومن آذى النبي[ آذانا، لكن أسلوبه[ في الرد أحكم وأسلم فلم يقاطع ولم يعنف ولم يسب، بل كان رده برد السلام وكان رده بأسلوب الإحسان إلى من أساء إليك؛ لأن هذا أوفق في ردعه عن إساءته، فرفقك بمن أساء خير من عنفك، فلا مظاهرات ولا مهاترات لكن بالتي هي أحسن كما علم النبي[ عائشة كيفية الرد، ومعلوم أن من أساء إليك إذا رآك غاضبا فرح لأنه نال مراده بإغضابك، وعن عائشة - رضي الله عنها - : «أن رجلا استأذن على النبي[ فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، فلما جلس تطلق النبي[ في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال  رسول الله[: يا عائشة متى عهدتني فاحشا؟! إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» رواه البخاري.

وقد نوزع في كون ما وقع من ذلك غيبة، وإنما هو نصيحة ليحذر السامع، وإنما لم يواجه المقول فيه بذلك لحسن خلقه[، ويستنبط منه أن المجاهر بالفسق والشر لا يكون ما يذكر عنه من ذلك من ورائه من الغيبة المذمومة، ويذكر عن أبي الدرداء قوله: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم. والكشر: ظهور الأسنان وأكثر ما يطلق عند الضحك، قال ابن بطال: والمداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك، وشرح ابن بطال الحديث على أن المذكور كان منافقا وأن النبي[كان مأمورا بالحكم بما ظهر لا بما يعلمه في الأمر نفسه، وقال ابن بطال: إن الرجل هو عيينة بن حصن ابن حذيفة بن بدر الفزاري وكان يقال له «الأحمق المطاع»، ورجا النبي[ بإقباله عليه تألفه ليسلم قومه لأنه كان رئيسهم. انتهى. وقد أبدى له النبي[ طلاقة وجهه، قال الخطابي: جمع هذا الحديث علما وأدبا وليس في قول النبي[ في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجابهه بالمكروه؛ لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته.

وقال ابن رجب: وظاهر كلامه أن يكون هذا من جملة الخصائص، وليس كذلك؛ بل كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته، وإنما الذي يمكن أن يختص به النبي[ أن يكشف له عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطلعه المغتر على حاله؛ فيذم الشخص بحضرته ليتجنبه المغتر ليكون نصيحة، بخلاف غير النبي[ فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه. انتهى.

وقال القرطبي: في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك والدعاء إلى البدعة، مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى، والنبي[ إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يناقض قوله فيه فعله؛ فإن قوله فيه قول حق وفعله معه حسن عشرة؛ فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد الله تعالى. انتهى.

وقال عياض: لم يكن عيينة - والله أعلم- حينئذ أسلم؛ فلم يكن القول فيه غيبة، وكان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا، فأراد النبي[ أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي[  وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه؛ فيكون ما وصفه به النبي[ من جملة علامات النبوة، وأما إلانة القول له بعد أن دخل فعلى سبيل التألف له، وهذا الحديث أصل في المداراة وفي جواز غيبة أهل الكفر والفسق ونحوهم. انتهى.

والحاصل أن كل هذا ذكر لبيان وجوب الرفق بالمسيء؛ لأن هذا أدعى لكفه عن إساءته، وهو مما يشد البنيان المرصوص، أقصد بنيان المجتمع.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك