رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 30 يناير، 2024 0 تعليق

الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس وعموم فلسطين – لمحة عن تاريخها ودورها الحضاري   (4)

  • يعد الخط الحديدي الحجازي وقفا إسلاميًا وهو من الإنجازات الرائعة والنادرة للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني من الناحية السياسية والدينية والحضارية
  • ساعد الخط الحجازي في نهضة تجارية واقتصادية لمدن الحجاز والمدن الواقعة على امتداد الخط ومنها مدينة حيفا التي تحولت إلى ميناء ومدينة تجارية مهمة وكذلك المدينة المنورة
 

جعل الإسلام الوقف في منزلة كبرى، بل جعله من أولويات المجتمع المسلم؛ فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أول من أوقف في الإسلام أرضا على فقراء المسلمين، تلاه عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الذي اشترى بئر (رومة)، وأوقفها على سقيا الناس، فأقر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظام الوقف، وطبقه التطبيق العملي في بناء مسجد قباء بأموال المسلمين، كما قال جابر بن عبدالله: «لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذا مقدرة إلا وقف»، وقد تميزت مدينة القدس مثل غيرها من مدن العالم الإسلامي بكثرة الأوقاف فيها،ومن ذلك الأوقاف في العهد العثماني.

الخط الحديدي الحجازي

      يعد الخط الحديدي الحجازي وقفا إسلاميًا، وهو من الإنجازات الرائعة والنادرة للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني من الناحية السياسية والدينية والحضارية، بل هو من أعظم الأوقاف المعاصرة؛ حيث قدم هذا المشروع خدمات جليلة ولاسيما لحجاج بيت الله الحرام، الذين تخلصوا من رحلة الشقاء الطويلة التي كانت تمتد لأكثر من شهر وسط المخاطر الكثيرة؛ إذ تقلصت بعد إنشاء الخط إلى خمسة أيام فقط بما في ذلك فترات الاستراحة. فبعد أن رأى السلطان عبد الحميد ما يعانيه الحجاج من مشاق في طريقهم إلى مكة المكرمة، عزم على مد خط حديدي لتسير عليه عربات بخارية تحمل الحجاج والمتاع، وتقيهم متاعب السفر لأشهر في صحراء مقفرة، وشمس حارقة، وحصى ملتهبة، وأهوال لا يقدر عليها إلا الرجال الصناديد، خصص لمده من خزانة دولته أقصى ما تستطيع، ومن ماله الخاص ما جادت به نفسه، ورغب المسلمين في المشاركة والتبرع لهذا المشروع الاستراتيجي. ومثل هذا المشروع لا يكفيه ذلك، وأوقف له الأوقاف، وسخر الجيش العثماني للعمل في مده، ووصف الشيخ على الطنطاوي -رحمه الله- في كتابه «ذكريات»، العناء الذي أصاب الجيش ما أدى إلى «موت آلاف الجنود حتى قيل إن في كل مائة متر منه قبر شهيد».

بداية العمل في المشروع

      شرع العمل في هذا المشروع العملاق سنة 1900م، وامتد العمل فيه ثماني سنوات متتالية؛ فأصبحت الرحلة بعد إنشاء هذا الخط الحديدي الذي بلغ طوله (1320كم) تستغرق أيامًا معدودة ينعم فيها الركاب بالراحة والأمان. وعاش المسلمون في البلدان كافة حلم إنشاء الخط الحجازي، وتخيل الكثيرون أن البعث والصحوة بين المسلمين اقترب زمانها، وتجلت هذه المشاعر الفياضة في حماسة العمل وسرعة إنجازه، وعندما وصل أول قطار إلى المدينة المنورة حاملا الحجاج انهمرت الدموع، وانهالت الدعوات للسلطان عبد الحميد. وكان مما أوقف السلطان لذلك الخط الحديدي أراضي في حيفا، وعكا والناصرة، واستثمار مياه وادي اليرموك، وأراضي ومباني في دمشق وبيروت، ومنها كذلك استثمار الفوسفات في الأردن، وفي كل ذلك حُجج وقفية ووثائق قضائية.

إجمالي ما صرف عليه

        وبلغ إجمالي ما صرف على الخط الحديدي أربعة ملايين ونصف المليون من الليرات الذهبية العثمانية، وقد سجل الخط وقفاً إسلاميا بعد أن لوحظت الأطماع الاستعمارية في ذلك المشروع الرائد وربط بوزارة الأوقاف العثمانية، وعينت له إدارة مستقلة، وصدر بذلك القانون رقم 488 عن مجلس النواب العثماني.

أول قطار إلى المدينة المنورة

     ووصل أول قطار إلى المدينة المنورة في (22 رجب 1326هـ الموافق 23 أغسطس 1908م)، وأقيم الاحتفال الرسمي لافتتاح الخط الحديدي، وقدم الخط الحجازي خدمات جليلة لحجاج بيت الله الحرام؛ حيث استطاع حجاج الشام والأناضول قطع المسافة من دمشق إلى المدينة المنورة في خمسة أيام فقط بدلاً من أربعين يومًا، مع العلم أن الوقت الذي كان يستغرقه القطار هو (72) ساعة فقط، أما بقية الأيام الخمسة فكانت تضيع في وقوف القطار في المحطات وتغيير القاطرات. وكانت القطارات البخارية تنطلق من محطة قطار «حيدر باشا» بإسطنبول إلى دمشق، ومن دمشق إلى المدينة المنورة، وكان يسمى خط الحجاز؛ فتحقق الحلم الذي طالما انتظره المسلمون، وكان في خطة المشروع الحجازي أن يمتد بعد ذلك إلى مكة المكرمة ومن هناك إلى جدة، بيد أن أياً من ذلك لم يتحقق.

نهضة تجارية واقتصادية

      وساعد الخط الحجازي في نهضة تجارية واقتصادية لمدن الحجاز، والمدن الواقعة على امتداد الخط، ومنها مدينة حيفا التي تحولت إلى ميناء ومدينة تجارية مهمة، وكذلك المدينة المنورة. كذلك ظهرت مجتمعات عمرانية نتيجة استقرار بعض القبائل والتجمعات البدوية على جانبي الخط في بعض الجهات واشتغالهم بالزراعة.

تسع سنوات من العمل

      واستمرت سكة حديد الحجاز تعمل بين دمشق والمدينة المنورة ما يقرب من تسع سنوات (1908 - 1918 م)، نقلت خلالها التجار والحجاج، وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى ظهرت أهمية الخط وخطورته العسكرية على بريطانيا؛ فعندما تراجعت القوات العثمانية أمام الحملات البريطانية، كان الخط الحجازي عاملاً مهما في ثبات العثمانيين في جنوبي فلسطين نحو عامين في وجه القوات البريطانية المتفوقة.

الثورة العربية

       وعندما نشبت الثورة العربية واستولت على معظم مدن الحجاز، لم تستطع هذه القوات الثائرة السيطرة على المدينة المنورة؛ بسبب اتصالها بخط السكة الحديدية ووصول الإمدادات إليها، واستطاعت حامية المدينة العثمانية أن تستمر في المقاومة بعد انتهاء الحرب العالمية بشهرين؛ لذلك لجأ قادة الثورة العربية تنفيذًا لمشورة ضابط الاستخبارات البريطاني (لورانس) إلى تخريب الخط ونسف جسوره وانتزاع قضبانه في أجزاء عدة منه.

عطلته أيادي الاستعمار

      وهذا الوقف عطلته أيادي الاستعمار المعاصر، فكان لبريطانيا الدور الأكبر في تعطيله والدفع لتوقفه، وأضحى مأساة يشهد عليها التاريخ والواقع، وسكته الممدودة على الأرض كالجثة الهامدة، لا هو حي فيرجى ولا هو ميت فينسى، يذكرنا بحاله وحالنا، ولسان حاله يقول: هل من رجعة لربط العالم الإسلامي بمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

هذا الخط وقف إسلامي

يقول الشيخ على الطنطاوي: «إن هذا الخط وقف إسلامي، وملك للمسلمين جميعاً؛ لأنه أنشئ:
  • أولاً: بأموالهم كلهم.
  • ثانياً: لأنه يربط المسلمين بقبلتهم، وبمدينة نبيهم.
  • ثالثاً: لأنه كان مستقلاً مربوطاً بوزارة الأوقاف العثمانية.
  • رابعاً: لأن مؤتمر الصلح في لوزان أقر هذه الوقفية بعد دراسة قانونية عميقة.
  • خامساً: لأن الحكومات المتعاقبة في سوريا اعترفت كلها بهذه الوقفية.
  • سادساً: لأن المادة الأولى من اتفاقية 18/4/1947م بين المملكة العربية السعودية وسوريا والأردن قد نصت على أن هذا الخط وقف إسلامي، وتأكد ذلك في البروتوكولين وملاحقهما المتفق عليها في مؤتمر الرياض في أول سنة 1954م» .
نسأل الله -تعالى- أن يعود هذا الوقف الإسلامي الثابت بصكوك شرعية وقضائية وقرارات دولية، لابد أن يعود كما كان وقفاً للأمة يصل بين مدن بلاد الشام وأرض الحجاز، وأن تمتد خطوطه لتصل بين العالم العربي.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك