رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. أمير الحداد 9 أكتوبر، 2023 0 تعليق

أعمال القلوب الغيرة

في رحلة عودتنا من الشارقة، أخذنا مجلسينا في الصف الأول، مقابل دفع ثمانية دنانير إضافية، دخلت عائلة، من أب وأم وأربعة أولاد، ثلاث بنات وولد، يبدو أنهم حجزوا التذاكر ولم يحجزوا المقاعد، جلسوا مكرهين في مقاعد متفرقة، أخذ الأب مجلسه في كرسي الممر بجانب صاحبي، بادرناه بالتحية، وعرضنا عليه أي مساعدة نهون عليه ضيقه. - الرحلة قصيرة، لا أود أن أزعج أحدا، ولكن شكرا على أية حال. بعد الإقلاع بعشرين دقيقة، سألني صاحبي وقد كنا بدأنا حوارنا في صالة الانتظار بالمطار. - وهل يجوز أن نصف الله بـ(الغيرة)؟! - تعرف القاعدة يا أبا طلال، نصف الله بما وصف به نفسه في كتابه أو في سنة نبيه الصحيحة دون تكييف أو تمثيل أو تشبيه أو تعطيل، وفي الحديث عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أحد أغير من الله؛ ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه»، متفق عليه، وتعرف أيضا حديث سعد بن عبادة؟ - عندما نزلت آيات الشهداء في الزنا؟ - نعم، نزل قول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:٤). قال سعد بن عبادة: «لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه -أي لا أضربه بجانب السيف بل بحده قاصدا قتله- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتعجبون من غيرة سعد! فوالله لأنا أغير منه! والله أغير مني! من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن...» (متفق عليه)؛ فصفة (الغيرة) ثابتة لله -عز وجل- على الوجه الذي يليق به، -سبحانه-، وفي الحديث أيضا بيان لذلك عن عائشة -رضي الله عنها- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته..» (البخاري). كان (أبو مساعد)، الرجل الذي جلس بجانبي كان يسمع حواري مع صاحبي، دون أن يلتفت إلينا، لاحظنا ذلك، وأعجبنا إصغائه! سألني (أبو طلال). - وكيف تكون الغيرة من أعمال القلوب؟! - يقول ابن حزم، الغيرة خلق فاضل مركب من النجدة والعدل؛ لأن من العدل كره أن يتعدى إلى حرمة غيره، وأن يتعدى غيره إلى حرمته، ومن كانت النجدة طبعا له حدثت فيه عزة، ومن العزة الأنفة من الاهتضام (مداواة النفوس). - هذا الكلام، صعب علي فهمه، ألا بسطته أو قرأت شيئا من أقوال (ابن القيم)، فهو أقرب إلى فهمي؟ - يقصد ابن حزم أن من كانت نجدة المظلوم (الفزعة له) طبعا له، يرفض أن يقع التعدي والظلم عليه، أما ابن القيم -رحمه الله- فيقول: «كلما اشتدت ملابسة العبد للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جدا حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره، وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك؛ ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله، والجنة حرام عليه، وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه له، فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة؟ وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له؛ فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة تميت القلب، فتموت له الجوارح؛ فلا يبقى عندها دفع البتة، ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة وجد الداء القلب قابلا ولم يجد دافعا فتمكن فكان الهلاك...» (الجواب الكافي). لم يقاوم جارنا فضوله فسأل: - هل المقصود بالغيرة هنا، الغيرة التي نعرفها؟ الغيرة على الزوجة والغيرة على البنات والمحارم؟ التفت إليه مبتسما.. - نعم هذه أول درجات الغيرة، ولذلك جعل الله من يموت دون عرضه شهيدا كما في الحديث، «ومن قتل دون أهله فهو شهيد» صحيح النسائي، ويرتقي العبد بغيرته لتصبح هي الدفاع والغضب لجميع ما حرم الله، فلا يرضى بالفواحش لأي كان، ولا يرضى أن تنتهك حرمات الله، حيثما كان، ويفصل ابن القيم هذا النوع من الغيرة، فيقول: «وغيرة العبد على محبوبه نوعان: غيرة ممدوحة يحبها الله، وغيرة مذمومة يكرهها الله، فالتي يحبها الله: أن يغار عند قيام ريبة مشروعة، والتي يكرهها الله: أن يغار لمجرد سوء الظن وهذه الغيرة تفسد المحبة وتوقع العداوة»، (روضة المحبين). - كلام جميل، يا (أبا سعد). عرفنا جارنا بنفسه، اسمه (أحمد)، كنيته (أبو بدر) يعمل مدرسا للتربية الإسلامية لمرحلة الثانوية. أقرأ لكما شيئا مما احتفظت به في ذاكرة هاتفي عن الغيرة؛ حيث لا مجال أن نتصل بالشبكة العنكبوتية في الطائرات. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا؟ قال: هذا لعمر، فذكرت غيرته فوليت مدبرا». فبكى عمر وهو في المجلس ثم قال: أو عليك يا رسول الله أغار؟ (البخاري). تقول أسماء: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأستقي الماء، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير على رأسي، فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع نفر من الأنصار فدعاني، ثم قال: «إخ، إخ» ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان من أغير الناس، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فأخبرته فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه» (متفق عليه). إن الغيرة في الإسلام تعود على العبد بالخير والنفع، وهي تدل على قوة إيمان العبد بالله -عز وجل-، والغيرة صفة من الصفات التي يحبها الله، تحمي القلب والجوارح من الوقوع في المعاصي والفواحش، وتساهم الغيرة في تطهير المجتمع من الرذيلة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك