رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر المحلي 17 يوليو، 2023 0 تعليق

أعمال القلوب – الزهد في الدنيا مفتاح الرغبة في الآ خرة

      موسم الشتاء في الكويت يترقبه الناس، ويفرحون بقدومه، فيه تنزل الأمطار، ويبرد الهواء، وتخضر الأرض، وينصب كثير منهم الخيم في الصحراء، يتمتعون بنعم الله، وكلما بعدت الخيام عن المدينة والمظاهر العمرانية، ازدانت الأرض وزاد جمال الطبيعة.

صاحبي من عشاق النزهات البرية، إذا غاب عن المسجد لأكثر من يوم عرفنا أنه خرج إلى الصحراء؛ لأنه لا يسافر في موسم الشتاء.

أصر علي أن أصاحبه في إحدى هذه الرحلات، قبلت عرضه بعد أن اشترطت عليه عدم المبيت.

بدأت رحلتنا بعد الشروق، وكان قد جهز كل شيء قبلها بليلة.

- عندما أكون في الصحراء، بعيدا عن ضوضاء المدينة، أتفكر في هذه الدنيا، وأنها لا قيمة لها، بيوتنا أصبحت قصورا، وخدمنا أكثر من حاجتنا، وموائدنا نترك فيها أكثر مما نأكل، إلى متى والإنسان يستزيد من ملذات الدنيا؟

- صدقت يا (أبا خالد)، حياتنا فيها من الإسراف والبذخ، ما يجعل المرء يخشى أن يصيبه غضب من الله؛ لذا يجب أن يذكر العبد نفسه بين فترة وأخرى، ويخرج الدنيا من قلبه حتى يستقيم أمره. وصلنا إلى المكان الذي أعده صاحبي، وقد غابت مظاهر العمران من جميع الجهات، فلا ترى إلا بساطا أخضر، ازدان بزهور صفراء على مد البصر، استقبلنا الحارس المكلف بالخيام، وتولى شأن ما أحضرنا من لوازم الرحلة، وأخذ كل منا عصاه، وأخذنا نمشي دونما التزام باتجاه.

- دعني أقرأ لك بعض ما قال العلماء عن الزهد في الدنيا: قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: الزهد في الدنا قصر الأمل، وفي رواية أخرى: الزهد في الدنيا هو عدم الفرح بإقبالها، وعدم الحزن على إدبارها، فقيل له: الرجل لديه ألف دينار، هل يكون زاهدا؟

قال: نعم، إذا لم يفرح بزيادتها ولم يحزن بنقصانها!

- كلام  جميل، زدنا من هذه الدرر المخزنة في هاتفك.

- الزهد في الدنيا يبدأ من القلب، وذلك حتى لا تدخل الدنيا قلبه، ودخولها كدبيب النمل لا يشعر به المرء، حتى إذا امتلأ القلب من الدنيا، نسي الآخرة؛ فالقلب وعاء، يمتلأ بأحدهما، وإذا امتلأ القلب بحب الدنيا، هلك ابن  آدم، ومهمة الشيطان تزيين الدنيا، وإبعاد الآخرة، وحتى يحفظ العبد قلبه من الدنيا ينبغي أن ينظر إلى حقيقتين، الأولى- سرعة زوالها وإدبارها، والثانية- إقبال الآخرة دون سابق إنذار (الموت).

وإيثار الدنيا على الآخرة لا يكون إلا بفساد الإيمان أو فساد العقل!

والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة:

       قال -تعالى-: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد:20).

      وقال -سبحانه-: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس:24). وبين الله -سبحانه- مصير من ملأت الدنيا قلبه ونسي الآخرة.

        {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يونس:7-8).

وزهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدنيا وبين مكانتها بالنبة للآخرة في الحديث:

عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم؛ فلينظر بم يرجع؟» (رواه مسلم). وبيّن موقف المؤمن منها فقال في الحديث:

       عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه؛ فقال يا رسول الله، لو اتخذت فراشا أوثر من هذا؟ فقال ما لي والدنيا؟ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة، ثم راح وتركها. (السلسلة الصحيحة).

       كنا كلما مررنا على عشبة جديدة، يقطع أبو خالد حديثنا ليسألني عن اسم العشبة، ثم يخبرني عن اسمها، لم أتعرف على أية عشبة صحراوية.

استدرك علي صاحبي:

- لنرجع إلى خيامنا، أظن الحارس قد أتم إعداد القهوة العربية، مع أن السير والحديث معك لا يملّ، ولكنه موعد القهوة الآن.

بدأنا العودة ولكن من طريق آخر.

- على العبد أيضا أن يعلم يقينا أن حرصه على الدنيا لن يزيده شيئا لم يكتبه الله له، وزهده في الدنيا لن يحرمه من شيء كتبه الله له.

- أظن أن هذه الجزئية هي الأهم من الثلاث التي ذكرت، ودائما أذكر مقطعا لأحد المشايع، وربما سمعته في إحدى الخطب لا أتذكر الآن، أن الحرص على الدنيا سمة اليهود، كما قال الله -تعالى-: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة).

- وبعض المسلمين يتخلقون بهذا الخلق أيضا، مع أن المؤمن ينبغي ألا يعطي الدنيا أكثر من قدرها الذي أعطاه الله إياها، وبيّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته كما في الحديث: عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بجدي أسك ميت، قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟! فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، قال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» (رواه مسلم). والجدي الأسك هو الجدي بلا أذنان، فإذا كان ميته لا يرغب فيه أحد فضلا عن أن يشتريه بدرهم.

وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء. (السلسلة الصحيحة).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك