رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 5 ديسمبر، 2023 0 تعليق

أدّب ولدك بالأمثال (6) المنـّة تهدم الصنيعة

  • المنّ المحرم ليس قاصرًا على المنّ بالصدقات بل يشمل كل عطاء
  • من محاسن الصفات وكريم الأخلاق التي ندب الإسلام إليها وينبغي أن يدرب الآباء الأبناء عليها اصطناع المعروف والإحسان إلى الناس
  • سبب المنّ في العطية هو الوقوف عند النعمة والغفلة عن المنعم الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى
 

من محاسن الصفات، وكريم الأخلاق التي ندب الإسلام إليها، وينبغي أن يدرب الآباء الأبناء عليها؛ اصطناع المعروف والإحسان إلى الناس بالبر والخير ما أمكن، فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «‌صنائع ‌المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تُطفئ غضبَ الربِّ، وصِلَةُ الرَّحِم تزيد في العمر» رواه الطبراني في «الكبير» وحسنه الألباني.

        والصنائع: جمع صنيعة وهي: كلُّ ما عُمِلَ من خير وإِحسان وفضل ومعروف، وكسائر القربات فلا تقبل الأعمال الصالحة إلا إذا كانت خالصة لله -سبحانه-، وابتغي بها وجه الله -تعالى-، وخلت من مخالفة الشرع المطهر بالبدع والمحدثات، وسلمت من النواقض والمبطلات. ومن مبطلات الإحسان والمعروف (المـنّ).

معاني المن في اللغة

والمنّ في اللغة له معان عدة منها:
  • الأول: القطع والانقطاع، يقال: مننت الحبل: قطعته، ومنه قوله -تعالـى-: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (التين:6) أي: غير مقطوع ولا منقوص، ومنه سمي الموت بالمنون لأنه ينقص العدد ويقطع المدد.
  • الثاني: اصطناع الخير، يقال: منّ عليه إذا أحسن إليه وأنعم وصنع صنعا جميلا.
وتطلق (المنة) على النعمة الثقيلة قال الراغب الأصفهاني:» ويقال ذلك على وجهين:
  • أحدهما: أن يكون ذلك بالفعل، فيقال: مـنّ فلان على فلان: إذا أثقله بالنعمة، وعلى ذلك قوله: {للَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا}، {يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله -تعالى.
  • الثاني: أن يكون ذلك بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ولقبح ذلك قيل: «المنـّة تهدم الصنيعة»، ولحسن ذكرها عند الكفران قيل: «إذا كفرت النعمة حسنت المنـّة»، وقوله -تعالى-: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فالمنـّة منهم بالقول، ومنة الله عليهم بالفعل، وهو هدايته إياهم».
فالمن بالقول: تذكير المنعِم المنعَم عليه بإنعامه.

من هو المنان؟

والمنـّان -كما قال ابن الأثير في النهاية-: «الذي لا يعطي شيئا إلا منّـة، واعتدّ به على من أعطاه، وهو مذموم؛ لأن المنّـة تفسد الصنيعة، ومنه الحديث: « ثلاثة يشنؤهم الله، منهم: البخيل المنّان». وفي تحفة الأحوذي:» منّان من المنّـة، أي: يمن على الفقراء بعد العطاء، أو من المنّ بمعنى القطع لما يجب أن يوصل».

المنّة خلق مذموم

والمنّة خلق مذموم، وصفة قبيحة، وهي كذلك من كبائر الذنوب، ومن محبطات الصدقات كما دلت على ذلك النصوص الشرعية. فقبول الصدقة مشروط بعدم المنّ والأذى كما قال -تعالى-: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:262) قال القرطبي:» بيّن في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منـّاً ولا أذى؛ لأن المنّ والأذى مبطلان لثواب الصدقة». وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (البقرة:264) قال القرطبي: «وعبر -تعالى- عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبطال، والمراد الصدقة التي يمنّ بها ويؤذي، لا غيرها. وقال جمهور العلماء في هذه الآية: إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ أو يؤذي بها فإنها لا تقبل». وقال: «والمنّ من الكبائر». وقال النووي: «ويستحب دفع الصدقة بطيب نفس وبشاشة، ويحرم المنّ بها، فلو منَّ بطل ثوابه». والمنّ المحرم ليس قاصرا على المنّ بالصدقات، بل يشمل كل عطاء، وهذا ما فهمه البخاري؛ حيث قال: ‏(‏باب المنان بما أعطى، لقوله -تعالى-: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى‏}‏ الآية‏). قال ابن حجر:» ومناسبة الآية للترجمة واضحة من جهة أن النفقة في سبيل الله لما كان المانّ بها مذموما، كان ذم المعطي في غيرها من باب الأولى‏».‏

وعيد المنان بعطيته

        وقال ابن مفلح -في الآداب الشرعية-: «ويحرم المنّ بما أعطى، بل هو كبيرة على نصّ أحمد، فقد روى هو ومسلم من حديث أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟ قال: «المسبل، والمنـّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» وفي رواية لمسلم: «المنّان الذي لا يعطي شيئا إلا منّة»، فهذا الوعيد الشديد لهذه الأصناف الثلاثة يدل على حرمة كل وصف منها، وأنه من كبائر الذنوب.

ثلاثةٌ يُحبُّهمُ اللهُ -عزَّوجلَّ- وثلاثةٌ يَشنَؤُهمُ

        وروى أبو ذر عن رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - أنه قال:» ثلاثةٌ يُحبُّهمُ اللهُ -عزَّوجلَّ-، وثلاثةٌ يَشنَؤُهمُ اللهُ -عزَّ وجلَّ-» قال أبو ذَرٍّ: قُلْتُ: مَنِ الذينَ يُحبُّهمُ اللهُ؟ قال: «رجُلٌ لقِيَ فِئةً أو سَرِيَّةً فانكَشَفَ أصحابُهُ فلقِيَهم بنفْسِهِ ونَحرِهِ حتَّى قُتِلَ أو فتَحَ اللهُ -عزَّ وجلَّ-، ورجُلٌ كان مع قومٍ، فأطالوا السُّرى حتَّى أَعجَبهم أنْ يَمَسُّوا الأرضَ فنزَلوا، فتَنحَّى، فصلَّى حتَّى أيقَظَ أصحابَهُ للرحيلِ، ورجُلٌ كان له جارُ سُوءٍ، فصبَرَ على أذاهُ حتَّى يُفرِّقَ بيْنَهما موتٌ أو ظَعْنٌ». قال: قُلْتُ: هؤلاءِ الذينَ يُحبُّهمُ اللهُ، فمَنِ الذينَ يَشنَؤُهم؟ قال: «التَّاجرُ الحلَّافُ، والبخيلُ المنَّانُ، والفقيرُ المُختالُ». أخرجه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع. وعن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا: عاق ومنان ومكذب بالقدر» أخرجه الطبراني وحسنه الألباني. وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقّ لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى» أخرجه أحمد وصححه الألباني. فهذه الأحاديث الكريمة تبين وعيد المنان بعطيته، ومآل أمره إن لم يتب إلى ربه.

سبب المنّ في العطية

        ويبين القرطبي أن سبب المنّ في العطية هو الوقوف عند النعمة والغفلة عن المنعم الحقيقي وهو الله -سبحانه وتعالى-، فالإنسان وما بيده كله ملك لله ومن الله -تعالى-، فيقول:‏ «المنّ غالبا يقع من البخيل والمعجب، فالبخيل تعظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها، والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة وأنه منعم بماله على المعطي وإن كان أفضل منه في الأمر نفسه، وموجب ذلك كله الجهل ونسيان نعمة الله فيما أنعم به عليه، ولو نظر مصيره لعلم أن المنـّة للآخذ لما يترتب له من الفوائد‏.‏»

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك