رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 27 نوفمبر، 2023 0 تعليق

أدّب ولدك بالأمثال (4) – المداراة قوام المعاشرة

المجامع والمنتديات تجمع صنوف الناس، العاقل والسفيه، والذكي والبليد، والمثقف والعامي، والكريم واللئيم، وزاد الأمر بأن فتحت مواقع التواصل الاجتماعي مساحة واسعة لملايين البشر أن يعبروا عن آرائهم، ويعربوا عما في صدورهم؛ من حق وباطل، وغث وسمين، وصدق وكذب.

      فيبتلى الإنسان أحيانا ببعض الناس ممن يجادل في كل شيء، ويقترح في كل أمر، ولا يفرق بين ما كان وفات استدراكه فلا ينفع فيه اقتراح ولا نصيحة، وبين ما هو آت مما يقبل التوجيه والإرشاد، فيماري هذا الشخص، ويناقش فيما يعلم وفيما يجهل، ويجادل بالأدلة أحيانا، وبرفع الصوت أحيانا أخرى، فمثل هذا الإنسان الحوار معه كأنه معركة مصير، حياة أو ممات، لا يقبل الهزيمة، ولا يرضى بالخسارة، يهاجم ولا يفرق بين الرأي ومن يراه، ولا بين القول ومن قاله، وكل المناقشات عنده تمس شخصه الكريم، وكل الآراء خطأ عدا رأيه السليم.  

تقدير المصلحة الكبرى

       فالعاقل في مثل هذه المواقف يقدر المصلحة الكبرى، وينظر للصورة العظمى، ويعمل بهذا المثل: (المداراة قوام المعاشرة)، فيقدم رعاية القرابة أو الصداقة على حظ النفس في الانتصار على مثل هذا المجادل، فلو دخل المرء كل معركة دعي إليها، وانبرى لكل مناظرة أبرز الجاهل رأسه فيها، لعظمت خسائره، وقل أحبابه؛ لأن المتصف بالإنصاف من الناس قليل، والمتحلي بالموضوعية والتجرد نادر، فيقف العاقل بين مفترق طرق، إما أن يكون مصيبا فيخسر الناس، أو يتنازل عن رأيه أو يكتمه فيصبح محبوبا مقبولا.  

ترك الجدال والمراء

      ولهذا نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حثنا على ترك الجدال والمراء، ولو كان المرء محقا إبقاء للأخوة والمحبة والصداقة أو القرابة، وهي الأهم من الانتصار في حوارات هامشية، القصد الأول منها المجاملة والتسلية، فعن أبي أمامة -.- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لمن تركَ المِراءَ وإنْ كان مُحقًّا» أخرجه أبو داود، قال في عون المعبود: قوله: (أنا زعيم) أي: ضامن وكفيل ببيت. قال الخطابي: «البيت هاهنا القصر، يقال: هذا بيت فلان. أي: قصره (في ربض الجنة) بفتحتين أي: ما حولها خارجا عنها، تشبيها بالأبنية التي تكون حول المدن وتحت القلاع. والمراء: أي: الجدال، كسرا لنفسه كيلا يرفع نفسه على خصمه بظهور فضله». فترك الجدال، والترفق بالناس يعرف بـ (المداراة)، قال بعض العلماء: «رأس المداراة ترك المماراة». قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: «الْمُدَارَاةُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ خَفْضُ الْجَنَاحِ لِلنَّاسِ، وَلِينُ الْكَلِمَةِ، وَتَرْكُ الْإِغْلَاظِ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ، وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ».  

التلطف بالناس

      وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلطف بالناس، ويحسن سياستهم لاختلاف عقولهم، وتباين طباعهم، فعن عائشة قالت: اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ: «ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ». فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ مَا قُلْتَ: ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ؟ فَقَالَ: «أَيْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ، أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ، اتِّقَاءَ فُحْشِهِ» أخرجه البخاري في باب: الْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ. وقال: وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ. قوله (لنكشر): من الكشر، وهو ظهور الأسنان، وأكثر ما يكون عند الضحك، وهو المراد هنا. وقوله(لتلعنهم): لتبغضهم. وأخرج البخاري عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ، مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: «خَبَأْتُ هَذَا لَكَ». قَالَ أَيُّوبُ بِثَوْبِهِ وَأَنَّهُ يُرِيهِ إِيَّاهُ، وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شَيْءٌ. قال ابن حجر: «وَإِنَّمَا قِيلَ فِي مَخْرَمَةَ مَا قِيلَ لِمَا كَانَ فِي خُلُقِهِ مِنَ الشِّدَّةِ، فَكَانَ لِذَلِكَ فِي لِسَانِهِ بَذَاءَةٌ، وَأَمَّا عُيَيْنَةُ فَكَانَ إِسْلَامُهُ ضَعِيفًا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أَهْوَجَ، فَكَانَ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ».  

لا تنازل عن المبادئ

      والمداراة أسلوب تعامل لا تنازل فيه عن المبادئ، بخلاف المداهنة وهي السكوت عن الحق أو إقرار الباطل كما قال -تعالى-: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم:9). قال مجاهد: «المعنى: ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك». وقال الفراء: «والادهان: التليين لمن لا ينبغي له التليين». قال ابن حجر: «وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُدَارَاةَ هِيَ الْمُدَاهَنَةُ فَغَلَطَ؛ لِأَنَّ الْمُدَارَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَالْمُدَاهَنَةُ مُحَرَّمَةٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ مِنَ الدِّهَانِ وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى الشَّيْءِ وَيُسْتَرُ بَاطِنُهُ، وَفَسَّرَهَا الْعُلَمَاءُ بِأَنَّها مُعَاشَرَةُ الْفَاسِقِ وَإِظْهَارُ الرِّضَا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ عَلَيْهِ، وَالْمُدَارَاةُ هِيَ الرِّفْقُ بِالْجَاهِلِ فِي التَّعْلِيمِ، وَبِالْفَاسِقِ فِي النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ، وَتَرْكُ الْإِغْلَاظِ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَظْهَرُ مَا هُوَ فِيهِ، وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِلُطْفِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَأَلُّفِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ».

معاشرة الناس والاختلاط بهم

        فالإنسان لابد له من معاشرة الناس والاختلاط بهم؛ فعليه أن يكون واعيا، فلا يجادل في كل موضوع، وإنما يقدر المصلحة؛ فحيث ترتب على سكوته سوء فهم للدين، أو ضياع مصلحة معتبرة فيلزمه البيان، وما عدا ذلك فمعظم مجالس الناس للمجاملة والتسلية؛ فلا يفسد الشخص المودة في نقاشات هامشية، ومعارك جانبية تسمم الأجواء، وتذهب بالمحبة. قال ابن الحنفية: «ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدا حتى يأتيه اللَّه منه بالفرج أو المخرج».  

الواجب على العاقل

        قال أبو حاتم: «الواجب على العاقل أن يداري الناس مداراة الرجل السابح في الماء الجاري (أي: يسايره ولا يقاومه) ومن ذهب إلى عشرة الناس من حيث هو كـدّر على نفسه عيشه ولم تصفُ له مودته؛ لأن وداد الناس لا يستجلب إلا بمساعدتهم على مَا هم عَلَيْهِ إلا أن يكون مأثما، فإذا كانت حالة معصية فلا سمع ولا طاعة.  

أهواء وطبائع مختلفة

         والبشر قد ركب فيهم أهواء مختلفة وطبائع متباينة؛ فكما يشق عليك ترك مَا جبلت عَلَيْهِ، فكذلك يشق على غيرك مجانبة مثله، فليس إلى صفو ودادهم سبيل إلا بمعاشرتهم من حيث هم، والإغضاء عَن مخالفتهم في الأوقات. قال الحسن: «يا ابن آدم اصحب الناس بأي خلق شئت يصحبوك عَلَيْهِ». فكما يحب المرء أن يحترم رأيه، ويحفظ ماء وجهه، فعليه أن يحترم آراء الآخرين، ويتسع صدره لتقبل الآراء المخالفة له، ويبقي مساحة بينه وبين الناس يلتقي معهم فيها فيما يتفقون عليه وهو كثير، ويسامحهم فيما اختاروهم لأنفسهم مما لا يخالف الدين الصحيح ولا العرف الصريح، ويرعى مودتهم ويديم أخوتهم ويرقب مكانتهم، فالمداراة نصف العقل، وعليها مدار المعاشرة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك